نيو يورك تايمز: مساعدة الأسد أو إبقاء المدن مدمرة؟ سياسة إعادة بناء سورية



دُمرّت سورية طيلة سنوات من الحرب، لكن الرئيس بشار الأسد ما يزال في السلطة. في تموز/ يوليو، عُلقت صورته في الوعر، التي كانت سابقًا منطقة ثرية في حمص، وهي اليوم شبح لصورتها السابقة. صورة عمر صناديقي/ رويترز

المعقل الأخير للمتمردين في المدينة، الذي كان في السابق حيًّا ثريًّا في حمص، بشوارعه الواسعة وشققه الشاهقة، صار اليوم شبحًا لصورته السابقة.

بعد حصارٍ دام ثلاث سنوات ونصف من قوات الحكومة السورية؛ لم يبقَ سوى عدد صغير من السكان في المنطقة المعروفة باسم حيّ (الوعر). تلاله المرتفعة قُصفت، ويبدو كما لو أنّه تلقى ضربةً قاصمة. سياراتٌ محترقة، وأجهزة التلفزيون مكومةٌ في شوارعه، وأكبر مستشفى فيه مدمرٌ تمامًا، بحيث لم يبق سوى طابقين من طوابقه العشرة قابلةً للاستخدام بصعوبة، حتى إن خزان الأكسجين مثقوب.

إذا كان الوعر، الذي استردته الحكومة في الربيع الماضي، يرمز إلى انتصار الرئيس بشار الأسد القاسي؛ فإنّه يجسّد أيضًا تحديًّا يلوح في الأفق، مع اقتراب الحرب من نهايتها: هو سياسة إعادة الإعمار.

هذا التحدي أساسي، بالنسبة إلى الأسد كما هو الحال بالنسبة إلى منتقديه الغربيين. هل يستطيعون أنْ يضخوا المال لنظامٍ جوَّعَ وقصفَ واستخدَم الغاز ضد شعبه، واستطاع، بمساعدة روسيا وإيران، استرجاع جزءٍ كبير من الأراضي التي خسرها، خلال ما يقرب من سبع سنواتٍ من الحرب. هل يستطيع الغرب التخلي عن شعب سورية، وتركه يعيش بين الأنقاض؟

السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة فرانسوا ديلاتر قال: إنَّ “مساعدةً أفضل للسكان السوريين المحتاجين، من دون توطيد سلطة الأسد، معادلةٌ صعبة، لكنَّها الطريق الضيق الذي يجب أن نجده”.

للحكومات الغربية مصلحةٌ كبيرة في المحصلة. إنَّ أيَّ أملٍ في عكس مسار تدفق اللاجئين -وهو مصدرُ قلقٍ لكثير من السياسيين الأوروبيين- يعتمد جزئيًا على قدرتهم على استعادة سورية سويًا، كما يمكن أنْ تكون عقود إعادة الإعمار مربحةً للشركات الغربية.

المبعوث الخاص للأمم المتحدة في سورية ستيفان دي ميستورا قال: إنَّ إعادة بناء سورية ستكلف ما لا يقل عن 250 مليار دولار.

في منطقة الوعر -وهي واحدةٌ من أحدث الأماكن التي استردتها قوات الأسد- عُرِضت صفقة على مقاتلي المتمردين: إما الاستسلام، أو المغادرة مع عائلاتهم إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون بعيدًا في الشمال، حيث خرج عشرات الآلاف من الأشخاص، بين شهري آذار/ مارس، وأيار/ مايو، ولم يبقَ سوى عدد قليل منهم، يُقدّر بنحو 000 ,30 شخص، وفقًا للسلطات الحكومية، وهم يسكنون شققًا نوافذها متطايرة، وأسقفها مفتوحة.

قمتُ بزيارة الوعر، في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر، مع مرافقٍ حكومي، ومسؤولٍ عسكري محليّ. ووفقًا للبنك الدولي، فإنَّ ما يقرب من خُمس المساكن السكنية في سورية متضررة. وحسب ما ذكرت الأمم المتحدة، فإنَّ واحدةً من كلِّ ثلاث مدارس متضررة، أو مدمرة، وأقلُّ من نصف المرافق الصحية في البلاد تعمل.

في أجزاءٍ من ثاني أكبر مدينةٍ في البلاد: حلب، التي استعادتها القوات الحكومية قبل عام، لا تزال تمديدات المياه مدمرةً؛ ما يتطلب من اللجنة الدولية للصليب الأحمر نقل المياه في الشاحنات، وهي عمليةٌ مكلفة. ولا يزال مركز مدينة حمص التاريخي، الذي تخلى عنه المتمردون في عام 2014، بعد حصارٍ مرهق، متاهةً تعجيزيةً من الركام.

بالنسبة إلى الأسد، أثبتت استراتيجية الحصار أنَّها أنجع وسيلةٍ لانتزاع المدن والأحياء من الأعداء، من خلال تجويع المدنيين الذين يعيشون تحت سيطرتهم، وحتى مع انتهاء الحرب، فإنه ما يزال يستخدمها، وغالبًا ما يكون لها عواقبَ إنسانية وخيمة.

في الغوطة الشرقية من ضواحي دمشق الغنية زراعيًا، والتي يحكمها المتمردون، أدى الحصار الذي فرضته الحكومة مؤخرًا إلى أعلى معدلاتٍ لجوع الأطفال المسجلة، خلال النزاع، كما وصفته الأمم المتحدة، حيث أُصيب ما يقرب من 12 في المئة من الأطفال بسوء التغذية الحاد.

وصفت فريدريكا موغيريني، وهي أكبر دبلوماسيةٍ في الاتحاد الأوروبي، مساعدات إعادة الإعمار بأنها آخر ورقة، في تأثير الغرب على المستقبل السياسي لسورية، بالرغم من أنَّ تأثير الغرب الآن على مصير الأسد غير مؤكدٍ في أحسن الأحوال. إذ لم تشمل المحادثات السياسية في جنيف، الأسبوع الماضي، موضوع مصير الأسد.

قالت السيدة موغيريني، في رسالةٍ عبر البريد الإلكتروني، تعبّر فيها عن تأييدها لفكرة إعادة بناء سورية في المستقبل: “نحن الآن على استعدادٍ للانتقال إلى الخطوة التالية”. لكنَّها قالت أيضًا: يتعين على الدول الغربية أنْ توضحَ بأنَّ مشاركتها “ستبدأ حينما يتم الاتفاق على الانتقال السياسي في جنيف”.

يستعد سكان الوعر للإجلاء في أيار/ مايو. محمود طه/ وكالة الصحافة الفرنسية- صور جيتي.

حكومة الأسد، من جانبها، حريصةٌ على ذكر أنَّ المهمات المستهدفة من تلك المحادثات السياسية قد ابتعدت عما كان هدفًا رئيسًا للمعارضة: خروج الأسد من السلطة. حيث قال علي حيدر، وزير المصالحة، في مقابلةٍ من دمشق: “لقد انتقلنا من فكرة استبدال فريقٍ بآخر، إلى مفهوم الشراكة لإنشاء بنيةٍ سياسية جديدة”. ومع ذلك، أشار إلى أنَّ الحكومة لم تتمتع إلا بانتصارٍ جزئيّ، وأضاف: “في ساحة المعركة، نحن في وضعٍ أفضل، وسياسيًا نحن في معركةٍ حقيقية”.

في حمص، ثالث أكبر مدينةٍ في سورية، ما يُذكّر بانتصار الأسد العسكري موجودٌ في كلِّ مكان، بما في ذلك عند مدخل فندقٍ تستخدمه الأمم المتحدة. فهناك لوحةٌ عملاقة في موقف السيارات لصورة للأسد، وهو يبتسم، مكتوبٌ عليها: “يدًا بيد، سنعيد البناء”. كان حصار منطقة الوعر أحد أطول الحصارات في البلد. خلال أقسى شھوره، أحرقت العائلات مفروشاتها لتتدفأ في فصل الشتاء.

تنقطع الكهرباء ساعاتٍ أو أيامًا، وطوابير الخبز طويلةٌ جدًا، كما ذكر سكان الوعر، كان الناس يتقاتلون فيما بينهم للحصول على ما يكفي لأسرهم. في اقتصاد الحصار الملتوي، أصبح سعر الحليب باهظًا جدًا؛ ما جعل الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يتقاطرون إلى المستشفى الذي تديره مؤسسة خيرية، وهو (مشفى البرّ) الذي لا يزال يعمل بصعوبة. كانت الإمدادات الطبية نادرةً إلى درجة أنَّ ممرضةً مغامرة في المشفى حطمت الأساسيات، مثل الضمادات والمقص لقطع الشاش.

في أسوأ الأسابيع، ساعد الموظفون النساء في إيصال أطفالهن إلى الطابق السفلي، وهو المكان الأكثر أمانًا من الغارات الجوية، واستخدموا الهواتف المحمولة كمصابيح كهربائية، لادخار المولدات لإجراءاتٍ أكثر صعوبة.

ذات ظهيرة، جلس عبد الله برزي (11 عامًا) على دراجته، يقضم بصوتٍ عال بذور “عباد الشمس”، واستذكر قنبلة مصمّة للآذان قتلت أحد الأصدقاء، وتركته غير قادرٍ على السماع بضعة أيام، وتذكّرَ أنَّ صديقته سارة كانت تختبئ في الحمام؛ كلّما سمعت قذائف الهاون. وتذكرت شقيقته إيمان، (14 عامًا)، قصفًا آخر قتل عمها، بينما كان ينتظر ابنته على زاوية الشارع، لتعود إلى البيت من المدرسة.

حاجز على حدود الوعر العام الماضي عندما كان يسيطر عليه المتمردون. لؤي بشارة/ وكالة الصحافة الفرنسية- صور جيتي

كان رياض حسن كنعان، صاحب شقةٍ في الطابق الأرضي، يسير من خلال حطام ما تبقى من بيته، يمشي فوق أسلاكٍ وقطعٍ من شظايا مدفعية. كلُّ ما حوله ركام. ويبدو أنَّ جزءًا من منزله قد استُخدم كمستودعٍ للأسلحة. قام قائد فريق تطهير أنقاض الأبنية، حسان هلال، بالتقاط قطع قنابل محلية الصنع. وقادني عبر الأنفاق التي حفرت تحت التلال العالية.

كانت خزانات المياه متناثرةً في كل مكان، وتستخدمها الفصائل المسلحة لبناء مواقع دفاعية. إحدى المباني السكنية العادية تتميز عن غيرها بكومةٍ من أكياس الرمل في الطابق الأرضي، كانت قد استخدمتها (جبهة النصرة)، وهي فرع القاعدة في سورية، كمركزٍ للاحتجاز عندما كانت تحتفظ بمنطقةٍ من الوعر.

انتهى الحصار بصفقةٍ قاسية عُرضت على الناجين، بمن فيهم مقاتلون مناهضون للحكومة: استسلامهم للسلطة، أو النقل بحافلاتٍ حكومية إلى منطقةٍ يسيطر عليها المتمردون شمالًا. وقد اختار عشرات الآلاف من الناس الحافلات، وتدفقوا إلى مناطق قريبةٍ من الحدود التركية، حيث اتضح أنّ الظروف كانت أحيانًا أسوأ.

وصف تقريرٌ صدر مؤخرًا عن منظمة العفو الدولية هذا بأنَّه “تهجير قسري”، وقال: إنَّه ينتهك القانون الدولي. وقالت المجموعة: إنَّ أيَّ مساعداتٍ لإعادة الإعمار يجب أنْ تضمن عودة المدنيين طوعًا إلى ديارهم، “بسلام وكرامة”.

قابلتُ امرأةً أرملة وهي أمّ لثلاثةٍ، من الذين بقوا طوال الحصار. إلا أنّه بمجرد رفعه، غادر ابنها البالغ من العمر 21 عامًا إلى بلدةٍ تسيطر عليها المعارضة، بالقرب من الحدود التركية. وقالت: خشي من اعتقاله إذا بقي. المرأة، التي لم ترغب في ذكر اسمها حفاظًا على أمن عائلتها، نظرت إلى أسفل، وحركت أصابعها من خلال خرز سبحتها. وقالت: “إنَّه على وشك أنْ يفقد مستقبله”. وفي نهاية المطاف، سوف أضطر إلى ترك منزلي، واللحاق به. كانت مترددةً في التحدث أكثر من ذلك. حيث كان معنا مرافقٌ حكومي أثناء المقابلة.

كانت هناك زاوية من سقف شقتها ما تزال مدمرةً، منذ أنْ ضربت قذيفة المبنى؛ ما أسفر عن مقتل جارٍ في الطابق العلوي كان يقف على الشرفة، في محاولةٍ للحصول على تغطيةٍ لإشارة الهاتف المحمول.

اسم المقال الأصلي Help Assad or Leave Cities in Ruins? The Politics of Rebuilding Syria الكاتب سوميني سينغوبتا، Somini Sengupta مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز، The New York Times، 3/12 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2017/12/03/world/middleeast/syria-war-rebuilding-homs.html عدد الكلمات 1324 ترجمة أحمد عيشة


أحمد عيشة


المصدر
جيرون