قراءة في جنيف 8



حضر وفد النظام مُكرهًا إلى محادثات السلام في (جنيف 8)، ثم غادرها على عجلٍ متذرعًا برفض بيان (الرياض 2)، المستند إلى روح الانتقال السياسيّ، ومتذرعًا برفض ورقة دي ميستورا المستندة إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254. وسيعود هذا الوفد مُكرهًا أيضًا إلى هذه المفاوضات، بعد أيام. وجلّ قصده من هذه المناورات هو تعطيل هذه المحادثات، قدر الإمكان. وما هذا التعطيل إلّا لأنَّ مؤتمر (جنيف 8) هو الأقل هزلًا من سابقاته، ومن مؤتمرات جانبيّة كـ “أستانا” و”سوتشي”؛ فالنظام يخشى أن تؤسس هذه المحادثات لنهايته.

انتشى النظام والروس، قبل (الرياض 2)، باستقالة “رياض حجاب” ومن معه، لأنهم راهنوا على سقف منخفض لمؤتمر (الرياض 2) سقف يسكت عن رحيل الأسد، ويرضى بحكومة موسعة لا صلاحيات لها، ويقبل الدستور الحاليّ مع بعض التعديلات الشكليّة، ويخوض انتخابات غير مراقبة دوليًا، ويبدأ في إعادة الإعمار.. إلخ. ولكن كما يقول المثل الشعبي: “حسابات السوق لم تنطبق على حسابات الصندوق”؛ فقد أصرّ مؤتمر (الرياض 2) على سقف القرارات الدوليّة، وعلى سقف المطالب الشعبيّة السوريّة، ومن هنا نتفهم غضب “الجعفري” من بيان (الرياض 2).

الحق يقال: إنَّ مفاوضات (جنيف 8) تتميز بميزتين اثنتين: الأولى هي قرب الانتهاء من “الإرهاب السني”، والبدء بتحجيم “الإرهاب الشيعي”، أما الثانية فهي التلميحات الأميركيّة الضاغطة على روسيا وإيران بشأن تخليها، وحلفائها، عن ملف إعادة الإعمار في سوريّة، ومساندتها الصريحة لمسار (جنيف 8)، ومعاندتها لمسار “سوتشي”. وقد وصلت الرسالة التي معناها أنَّ القرارات والبيانات الدوليّة هي المرجعيّة لهذه المحادثات، وأنَّ “جنيف” هي مكانها، وأنَّها سُتفرض على كافة الأطراف.

يعضد هذا كلّه وفدٌ للمعارضة -موحّد ومساند لمسار (جنيف 8)، وله مرجعيّة في بيان (الرياض 2) والقرارات والبيانات الدوليّة ذات الصلة بالشأن السوريّ- يجعل من هذه المحادثات محادثات الحدّ الأدنى التي ستحمل بعضًا من الحل للسوريين، وتضعهم على سكة الحلّ النهائي.

بالرغم من أنَّ المناخ العام غير مناسب عمومًا لإجراء مثل هذه المحادثات بشكل مثاليّ ونهائيّ، وبالرغم من محاولات النظام المحمومة لإفشال هذه المحادثات، فإن (جنيف 8) أمام مفترق طرق؛ فإما أنْ تحمل للسوريين بارقة ضوء في نهاية النفق، ترشدهم إلى الخروج من هذا النفق، وإما أنْ تتحول إلى “سوتشي”؛ وعندها تتحول بارقة الضوء إلى ضوء قطار يدهس جميع من في النفق. وهذا يعني -في ما يعنيه- إما طي صفحة القرارات والبيانات الدوليّة التي تفيد الانتقال السياسيّ والانتخابات والدستور ورحيل الأسد وعودة اللاجئين والإفراج عن المعتقلين وإعادة الإعمار ومحاسبة المجرمين وفك الحصار وإيصال المساعدات، وإما استمرار الحرب في سوريّة وعليها.

من هذه الاعتبارات، يُحاول “الجعفري”، رئيس وفد النظام التفاوضي، تعطيل مفاوضات (جنيف 8)، على أمل لفلفة وتجاوز الأسس الدوليّة التي تقوم عليها هذه المفاوضات. مرة بذريعة “الشروط المسبقة”، وأخرى بذريعة عدم وجود وفد موحد للمعارضة، وثالثة بذريعة الورقة التي قدمها دي ميستورا، وأخيرًا برفضه لبيان (الرياض 2) جملة وتفصيلًا.

يريد “الجعفري” بهذا التعطيل تجاوز القرارات الدوليّة ذات الصلة بالشأن السوريّ، وتجاوز تهمة جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانيّة واستمرار بشار الأسد، ويتمنى أن تحل “سوتشي” محل “جنيف”، وأن تحل ورقة “المبادئ الأساسيّة للحل”، التي قدمها النظام للمبعوث الدولي، محل بيان (جنيف 1)، وأنْ تحل حكومة موسعة محل حكومة انتقاليّة بصلاحيات كاملة، وأنْ يجري انتخابات من دون مراقبة دولية، وأنْ يُفصِّل دستورًا يناسبه.

إنَّ النظام في الحقيقة يراهن على “سوتشي”، لا على “جنيف”، ويحاول “الجعفري” تجاوز بيان (جنيف 1) والقرارات الدوليّة ذات الصلة، بذريعة “عدم أخذ التطورات السياسيّة والعسكريّة بالحسبان”، وكأنه هو –لا روسيا وأميركا وإيران والسعودية وتركيا- من أحدث مثل هذه التطورات السياسيّة والعسكريّة. ويهدِّد “الجعفري” أن لا عودة إلى (جنيف 8)؛ إذا لم يتراجع وفد المعارضة و”دي ميستورا” عن بيان (الرياض 2)؛ أي عن القرارات الدوليّة.

دون أنْ يُقدّم وفد النظام إدانة لـ “الإرهاب الشيعيّ”، وخارطة طريق لمكافحته، ومن دون أن يتعهد بالعمل وفق أجندة سوريّة، لا إيرانية ولا روسيّة، كرّر على مسامعنا أسطوانة “الشروط المسبقة”، وهي، في حقيقة الأمر، قرارات دوليّة عليها موافقة بالإجماع، وليست شروطًا مسبقة إطلاقًا، وحاول تمرير أنَّه انتصر على الإرهاب، من دون الإشارة إلى “التحالف الدوليّ” الذي تقوده الولايات المتحدة، ودون الإشارة إلى توظيفه لـ “الإرهاب الشيعيّ” ولـ “الإرهاب السنيّ” في آنٍ.

إنَّ المجتمع الدوليّ يعطي للسوريين بعض ما يستحقون، بينما لا يعطي النظام للسوريين شيئًا، على عكس عطائه لإيران وروسيا؛ فإنَّه يعطيهم كلّ شيء. إنَّ مفاوضات (جنيف 8) هي حلّ الحدّ الأدنى المفروض على السوريين جميعًا، وإذا كان بإمكان النظام، ومن لفّ لفيفه، تعطيلها قليلًا، فبالتأكيد أنَّه ليس بإمكانهم لفلفتها وتجاوزها.


شوكت غرز الدين


المصدر
جيرون