البديهيات والأستاذ



“شاركتَ في رحلة نظمتها مدرستك إلى معمل السكر في جسر الشغور. اكتب موضوعًا عن الرحلة وصف مشاعرك”. في اليوم التالي، فوجئ الأستاذ نظير أن كل مواضيع الإنشاء التي كتبها طلابه في الصف السادس الابتدائي، تبدأ بالعبارة نفسها: “في يوم من الأيام”، سوى موضوع واحد يبدأ بعبارة “ذات يوم”. اندهش الطلاب من دهشة الأستاذ نظير، حتى إن رامزًا تساءل باستغراب شديد: “كيف يمكن بدء الموضوع بعبارة أخرى!”.

حركت نسمة ربيعية باردة أطراف خارطة الوطن العربي المعلقة دائمًا فوق اللوح، وعبثت بغرّة الأستاذ، قبل أن تكمل دورتها، وتتغلغل بين طلاب حائرين ويشعرون بذنب التشابه وضعف التعبير، والتسبب في خيبة أستاذهم المحبوب. ندمت أمينة لأنها لم تستشر أخاها، الذي لا يوجد من هو أشطر منه في التعبير، عند كتابة الموضوع، كان سيرشدها بالتأكيد إلى بداية تعجب الأستاذ. قال عامر إنه بات يكره هذه العبارة التي أزعجت الأستاذ. من جهتي، بدت لي تلك العبارة شبيهة بحفرة للسقوط، ولكني مع ذلك لم أستطع تخيل بداية أخرى.

هدأت نفوس الطلاب قليلًا، حين توقف الأستاذ عن التأمل في أرض غرفة الصف، ونظر إليهم مبتسمًا. طلب الأستاذ من هاني أن يقف ويحكي لزملائه ماذا فعل اليوم قبل مجيئه إلى المدرسة. ما إن بدأ هاني بالقول: استيقظت في الساعة السادسة، حتى أوقفه الأستاذ، وسأله: لماذا لم تبدأ بالقول “في يوم من الأيام”؟ ارتبك هاني قليلًا، وقال بصوت خفيض: “هذا ليس موضوع إنشاء أستاذ!”

طلب الأستاذ من الطلاب إخراج كتاب القراءة ومراجعة النصوص، قائلًا: من يجد نصًا يبدأ بعبارة “في يوم من الأيام”؛ فسأضع له علامة جيدة في التعبير. بحث الطلاب دون جدوى.

في حصة الرسم، كتب الأستاذ على اللوح: ارسمْ بيتًا. وحين جمع دفاتر الرسم، لاحظ أيضًا أن البيوت المرسومة متشابهة، وأنها ذات جملون، ولا تشبه بيوت القرية ذات السطوح المستوية. من جهتي، لا أدري أين أو كيف تعلمت رسم البيت ذي الجملون، لكنه سهل، وكنت معتادًا على رسمه، وتبين أن الجميع مثلي. ارسم على الورقة رقم ثمانية كبير، وارسم خطًا أفقيًا من رأس الزاوية، ومن نهاية هذا الخط ارسم خطًا عموديًا، ثم ارسم خطين عموديين من نهاية ضلعي الرقم ثمانية، بعد ذلك قم بوصل نهايات الخطوط؛ وستحصل على رسمة بيت جميل، ولا يبقى سوى أن تحدد الباب في منتصف المسافة بين الخطين العموديين، ويمكنك أن ترسم نافذة مستطيلة، وأن ترسم -أيضًا- دائرة في قلب الرقم ثمانية، لتكون مخرجًا محتملًا لتمديدات المدفأة. لا يبدو أن سهولة الرسم هي ما يفسر اتجاهنا إلى رسم بيوت ذات جملون، فالبيت الذي رسمه الأستاذ على اللوح كان أكثر سهولة، ارسم مستطيلًا، وحدد عليه نافذة وباب، وسوف تحصل على بيت جميل، ويمكنك -إذا أردت- أن تختار مكانًا عاليًا، لترسم عليه دائرة تكون مخرجًا مناسبًا لتمديدات المدفأة. البيت الذي رسمه الأستاذ على اللوح كان يشبه بيتنا غير أن الأستاذ لم يرسم ما يعادل المزراب الممتد عموديًا على جانب البيت.

“في يوم من الأيام”، قدمت وظيفة الرسم إلى الأستاذ نظير الذي كان قد طلب منا رسم “منظر طبيعي”. قضيت وقتًا غير قليل في إعداد الرسم. رسمت بيتًا وطريقًا يوصل إلى البيت، ورسمت زهورًا على جانبي الطريق. ثم رسمت شجرةً يختفي جذعها وراء البيت، فلا يظهر إلا نصفها العلوي، ورسمت جبالًا وشمسًا وغيومًا وطيورًا في السماء، على شكل أرقام سبعة مبعثرة، ثم رسمت نهرًا ينحدر من الجبال ويمر بجانب البيت، ورسمت جسرًا على النهر الذي زينت ضفتيه أيضًا بالزهور. ولكن بعد كل هذا، بقيت أجزاء واسعة من ورقة الرسم بيضاء، لا أدري ماذا أفعل بها، فتركتها كما هي بعد أن توصلت إلى قناعة مريحة بأن هذه الأجزاء البيضاء على ورقة الرسم تمثل الهواء، وهكذا قلت للأستاذ نظير، حين سألني عن هذه المساحات البيضاء في الرسم، فما كان منه إلا أن طلب مني أن أقف في باب غرفة الصف الذي يطل على جبل سلمى، وأن أشير له إلى الهواء الذي أقصده في رسمي.

وقفت في الباب واثقًا من أن الأمر بسيط، ولا يحتاج سوى إلى أن أرفع يدي، وأشير بسبباتي إلى مساحات الهواء. بهدوئه المعهود وقف الأستاذ نظير بجانبي، كأنه يريد أن يسترشد مني. ولكن بينما كنت أستعد للإشارة؛ امتلأ الفراغ أمام عيني، واختفت المساحات البيضاء التي تصورها ذهني. حينئذ فقط أدركت تلك البديهية: أن الطبيعة متلاصقة وممتدة دون انقطاع، وأن العين لا تقع على فراغ. كانت عيني تدرك ذلك بلا شك، ولكن هذا الإدراك لم يكن قد بلغ عقلي حتى تلك اللحظة التي حفرت لنفسها مكانًا دائمًا في ذاكرتي، بجوار مكان الأستاذ نظير.


راتب شعبو


المصدر
جيرون