سلطة الأسماء… رعشة خوف في قرية شيزر



لم يسقط خوف السوري من سلطة النظام إلا بعد اندلاع الثورة في سورية عام 2011، ففي البداية كان الأمل بالتخلص من سلطة الاستبداد كبيرًا، وبالنظر إلى بقية الدول التي انتفضت شعوبها كـ (تونس ومصر وليبيا..)؛ ظن السوريون أن ثورتهم منتصرة لا محالة، وأن سقوط النظام لن يدوم أكثر من أشهر قليلة. ولكن هذا -مع الأسف- لم يحدث، ومضى على عمر الثورة أكثر من ست سنوات، وعاد الخوف إلى حياة السوريين، لكن بأشكال جديدة.

“أبو سومر”!! انتفضت (أم أحمد) المرأة المنحدرة من قرية (شيزر) التابعة لمحافظة حماة، عند سماعها الاسم، وحاولت إخفاء خوفها، بضحكة مكسورة، لكنها لم تستطع، وقالت: “حتى هون في (أبو سومر)، نحن هربنا منه”. فطلبت منها أن تفسر لنا سبب خوفها وهروبها حتى من الاسم فقالت: (مو بس أبو سومر، وأبو الفهد كمان، هؤلاء ذبحوا شباب الضيعة.. ما تركوا حدا) تغص بالبكاء، وتكمل: (والله ما ضل عنا شباب.. شبابنا كلها راحت).

قرية شيزر، هي قرية صغيرة نسبيًا يعمل معظم سكانها في الزراعة، أراضيهم خصبة معطاءة، هكذا كانت قبل أن يحاصرهم النظام، ويفرض طوقه الأمني عليها.

أغلبية سكانها من الطائفة السنية، وفي القرية حيٌّ، اسمه (حي الميدان)، يسكنه أبناء الطائفة العلوية. قبل الثورة، لم تحدث مشكلات تذكر بين سكان القرية، بسبب الطائفة؛ ولكنها بدأت بعد الثورة، وقد عزز نشوبَ هذه المشكلات النظامُ الذي هدف -منذ بداية الثورة- على إظهارها بالمظهر الطائفي.

وبعد حصار قرية (شيزر) من قبل النظام؛ ازداد الخناق على سكانها، باستثناء حي الميدان، واستقدم النظام لإرهاب الأهالي كثيرًا من المجندين، بقيادة أشخاص كـ (أبو سومر وأبو الفهد و و…) الذين كان لذكر أسمائهم وقع خاص من الخوف، لا يفهمه إلا من حضر مداهماتهم، التي كان تهدف إلى اعتقال أو سوق الشبان إلى الخدمة الإلزامية، أو ارتكاب مجزرة في أحيان أخرى.

لم يتوقف النظام عند تدمير القسم الأكبر من القرية وتسويته بالأرض تمامًا، بل أخذ يمنع أهالي القرية من الذهاب إلى أراضيهم، ويحول بينهم وبين مصدر رزقهم الوحيد، من خلال نشر حواجز عدة في القرية، تعترض طريق أي شخص يريد الذهاب إلى أرضه، وتقوم بتفتيشه وسرقته وإذلاله، وفي حال سمح عناصر الحاجز له بالذهاب؛ فلا بد أن يكون لهم نصيب مما سيجنيه من أرضه، لذلك أهمِلت الأراضي.

روى لنا الحاج أبو محمد مما رأى، وقال: في أحد الأيام، بعد أن خفت وطأة الحواجز، وأصبح بمقدور أهل القرية الذهاب إلى أراضيهم؛ لاحظنا أن المياه الموجهة لسقاية الأراضي عبر قنوات الري، لا تصل إلى الأراضي؛ فقررنا تنظيف القنوات بـالجرافة (الباكر)، إلا أن الصدمة التي لن ينساها أبدًا أهالي (شيزر) هي مشهد الجثث التي انتشلها (الباكر) من القناة.

أضاف الحاج: “كنا ننتظر أن نشاهد بعض القمامة، لكننا رأينا جثث أبنائنا الذين سألنا عنهم كثيرًا وانتظرناهم، ثم علمنا أن (أبو الفهد) ذبحهم ورمى بهم هنا. انتشلنا الجثث، ونحن لا نكاد نصدق أن هؤلاء هم أبناؤنا الذين اختُطفوا”.

(أبو سومر) هو الآخر كان يقطع رؤوس الشباب، ويرميهم أجسادًا بلا رؤوس، ولكن في مكان آخر غير القنوات، كان يقتحم البيوت ليفرغها من أهلها، ولا سيّما الشبان، لم يوفر أحدًا منهم، إن كان بجانب الثوار أم لا.

في هذه الأيام، لا يسكن القرية إلا كبار السن، حيث قُتل قسم كبير من شبابها، وقسم آخر نجا بهروبه شمالًا. وعن العلاقة بين أهالي القرية وأهالي حي الميدان قالت الحاجة أم العبد: “لكثرة خوفنا على من تبقى، لم نعد نرسل أبناءنا إلى حي الميدان، مهما كانت الحاجة ملحّة، إذ إنهم في الغالب لن ينجوا من أولئك، ولو من باب المضايقات، نطلب من أبنائنا الابتعاد عن الحي قدر الإمكان”، وتتابع: “والله من قبل ما كنا نعرف السني من العلوي ولا شي.. الله غالب”.

بهذه الأفعال والتصرفات غير الإنسانية؛ أصبح للأسماء سلطة تمارس على من ذاق العذاب منها، سلطة الخوف والرعشة وضربات القلب المرتجفة، كيف أسمع اسم من ذبح ابني، ولا أرتعش! كيف أمنع روحي من أن لا تنتفض، كما عبرت الحاجة أم العبد؟ هي سلطة من يمتلكون سلاحًا وحسب، لا يمتلكون معه شيئًا آخر.


زين الأحمد


المصدر
جيرون