طه الطه الببلوغرافي الضائع



بعد أن تحوّلت محافظة الرقة بكل ما فيها، ومن فيها، إلى ذكريات، صرنا نحن (الرقاويين سابقًا) نبحث عن النقاط المضيئة من حياتنا السابقة، ليس لنتباهى بها، بل لنبكيها كما تستحق، قبل أن يستهلك خرابها احتياطي الحزن في نفوسنا.

الرقة -ككل المدن- قد ينبت فيها شاعر بين سنابل القمح، وليس بين جدران مكتبة، كما فعل إبراهيم الجرادي، وعبد الحميد عبد الله، أو يغادرها فلا تغادره؛ كما حدث للشاعر عيسى الشيخ حسن، وقد تمتد أحلام أحد أبنائها إلى وزارتين، وتأليف أكثر من 42 كتابًا، كما فعل الدكتور عبد السلام العجيلي، وقد يتنكب أحدهم ربابته في القرن العشرين، فيصبح مغنيها الأول، كما فعل حسين الحسن. الأجمل في هذه الحالات أنها قد حصلت فعلًا، والأسوأ هو ما آلت إليه تلك الأحلام!

أعرف أن الرقة تحولت إلى ركام، وأعرف أن البحث بين الأنقاض مهمة تجار الخردوات، إلا أن الحالات المميزة ليست خردوات، فالحالة مثال، نبراس، لقية أثرية، تتحول إلى شاهد تاريخي، رسالة، وقد كان للرقة -كما لكل المدن- رسائل تخصها وحدها، رسائل تميزها من غيرها، قد يقتلون المرسل، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلوا الرسالة. لقد مات عباس بن فرناس، وبقيت فكرة الطيران حية، ومات المتنبي؛ وبقي الشعر، ومات نيوتن؛ وبقي قانون الجاذبية.

لكل شيء حدود، إلا طاقة الإنسان فلا حدود لها، من هذه الطاقات التي لا حدود لها، كان طه الطه، دون مقدمات.. ودون شهادات.. ودون مال.. ومن دون ألقاب أيضًا. فرق أسرته ليجمع المبدعين، فكان له ما أراد. وكان (متحف طه الطه). للقارئ أن يتصور معنى هذه الكلمة: (متحف طه الطه)، وما أدراك من هو طه الطه، إنه موظف بسيط في مصرف التسليف الشعبي، بصفة مراسل!

التقتيه على مشارف أحلامنا في الألفية الثالثة، مفردًا في صيغة الجمع، مثقلًا بالجرائد، واللقى الأثرية، واللوحات، والأحلام، ويهجس بالببلوغرافيا الكونية، بعد أن تخطى المحلية والعربية!! فسألته آنذاك عن الدافع والطموح، فأجابني ببساطته المعهودة:

– يقولون: الحاجة أم الاختراع! حين بدأت العمل في مجال التوثيق، انطلقت من حاجة بلدي إلى متحف يضم تراثه المهدد بالضياع، وبإمكانات متواضعة، بدأت أعمل من أجل هذا الهدف، وبعد ربع قرن من العمل والطموح اللامحدود؛ تحولت من عاشق إلى لوحة بين 250 لوحة، ومن فكرة إلى كتاب بين ألفي كتاب يضمها متحفي. لقد وثّقت ببلوغرافيًا لـ 74 مبدعًا عربيًا، ونسيت نفسي، وجمعت 156 فنانًا عربيًا وعالميًا، وفرقت أسرتي، ولم يبق لي إلا المتحف، فهل يعني شيئًا في النهاية؟ أعتقد أن نعم، ولو كان الجواب: لا؛ لانتحرت.

يضم معرض طه الطه أربعة أقسام هي:

قسم الفلكلور الشعبي: ويشمل لوحات في الفن الفطري، والقديم من الأدوات المنزلية والزراعية والحلي والأزياء الشعبية. قسم الأرشيف: وهو خاص بالصحف العربية: تشرين- الثورة- البعث- ملحق الثورة الثقافي- الأسبوع الأدبي- البيان- الحياة- السفير- الاعتدال.. وصحف أخرى متفرقة، ترصد 200 سنة من تاريخ الصحافة العربية. قسم الآثار: وقد تبرع به لدائرة الآثار والمتاحف (متحف الرقة الرسمي)، ويحتوي على 102 قطعة من اللقى الأثرية. قسم الفن الحديث: وفيه أكثر من 250 لوحة فنية، لأكثر من 156 فنانًا من سورية وفلسطين ورومانيا وبولونيا واليابان وهولندا وألمانيا.

لقد أرشف لـ 1000 مبدع عربي، ووثّق من هذا الأرشيف ببلوغرافيًا لـ 11 من أدباء الرقة، و38 أديبًا من سورية، و27 أديبًا من الوطن العربي، هذا على صعيد الدراسات الببلوغرافية، وأقام 12 معرضًا فنيًا، منذ عام 1988 إلى عام 2000، هذه المعارض كانت تخدم غايتين: الأولى خلق حالة تواصل بين الفن والناس، والثانية هي أنه كان يقيم تلك المعارض في كل سنة، بمناسبة تكريم عالم أو فنان أو أديب أو باحث، وقد كرّم المتحف أكثر من 15 عالم آثار عالمي، و15 أديبًا عربيًا، و20 فنانًا تشكيليًا، وأكثر من مخرج سينمائي. وقد بلغ عدد الفنانين المشاركين في المتحف أكثر من 200 فنان.

تلك هي قصة طه الطه، الببلوغرافي الذي ضيع عمره بين قصاصات الجرائد. قصة رجل يوازي مؤسسة. قصة حلم يفوق برج إيفل ارتفاعًا، شيّده قبل أن تصبح الرقة يبابًا.


إبراهيم الزيدي


المصدر
جيرون