مفاوضات أم محاصصات



تتسارع الأحداث السياسية المرتبطة بالملف السوري، على عدة مستويات، بصورة متناسقة حينًا ومتعارضة أحيانًا، لكنها -في الغالب- تدور في فلك ترتيبات العملية التفاوضية المزمع إجراؤها، لإنجاز الحل السياسي المرتبط بالتوافق الدولي، والبعيد كل البعد من أي تمثيل لمصالح السوريين؛ ما يعكس حجم الابتذال السياسي الحاصل، عبر ما يعرف بـ “العملية التفاوضية”.

شهدت هذه العملية تقلبات وتغيرات جوهرية، على طول مسارها الطويل نسبيًا، لا سيما في ما يتعلق بمفهوم التفاوض أو الحوار السوري المزمع عقده، بين الأمس واليوم. وبغض النظر عن افتقاد هذه العملية -منذ يومها الأول- لأي تعبير حقيقي عن آمال وأهداف السوريين وثورتهم المغدورة؛ فإن مجمل الجهود الدولية المعنية بالبحث عن حل للمسألة السورية، كانت قد انطلقت في أواخر عام 2011، من الاعتراف بوجود ثورة شعبية سورية، لها ما لها، وعليها ما عليها. وبغض النظر عن مدى الاعتراف الدولي بأهداف وغايات الثورة السورية؛ فإن مجمل أو غالبية دول العالم كانت قد أقرت بوجودها وبفاعليتها وبشعبيتها، وهو الأمر الذي دفعها إلى حث الحكومة السورية –ظاهريًا- وحث الدول الداعمة لها على الرضوخ لطلبات الشارع السوري، من خلال عقد جلسات حوارية مع المعارضة السورية المعترفة بالثورة السورية والمؤيدة لها، بينما غابت الدعوات عن غالبية القوى أو المجموعات السياسية ذات المواقف السياسية المتذبذبة بين النظام والثورة، وعن تلك الخاضعة لسيطرة النظام، والمشكّلة سرًا من قِبله، وتصدّرت المجموعات الخاضعة كليًا للنظام السوري مشهدَ جلسات الحوار الوطني المقامة داخل سورية، بتنظيم النظام وترتيبه، وتم التعامل معها كمسرحية هزلية، لا يمكن أن تنطلي على أي شخص أو جهة.

بناء عليه، انحصر تمثيل المعارضة -في تلك المرحلة- بأعضاء المجلس الوطني، ومن بعده الائتلاف الوطني، استنادًا إلى الاعتبارات الدولية والإعلامية التي سوّقت الجسمَين، كممثلين عن الثورة وعن الشارع السوري، وبتجاهل كامل لموقف الشارع الثوري منهما، والذي عكس عدم ثقة وعدم اعتراف السوريين بأي منهما، كممثل للثورة ولأهدافها، إذا ما استثنينا بعض التظاهرات المؤيدة لهما، في المرحلة الأولى لتشكيلهما، نتيجة التضليل الإعلامي المرافق لتشكلهما، وقد عدّهما خطوة في الاتجاه الصحيح، من أجل فرض الحل السياسي على الحكومة السورية؛ الأمر الذي يؤدي إلى تجنيب المدنيين ويلات إجرام النظام. لذلك اتسم المشهد السياسي السوري -في تلك المرحلة- بالوضوح في ما يتعلق بالأطراف المتحاورة. وبغض النظر عن شرعية وصدقية الطرفيين، وبغض النظر كذلك عن محاولات النظام المتكررة لاختراق الكتلة المعارضة، من خلال فرض بعض الهياكل السياسية الخاضعة له؛ فإن مجمل الوضع الدولي كان رافضًا لمثل هذه الأفلام الهابطة.

في المقابل، نلمس اليوم حجم التغيير في وفد المعارضة، ومقدار التباين في المواقف داخله، سواء في ما يتعلق بالحل السياسي، أو في ما يتعلق بالموقف من الثورة السورية، حيث تم إدراج بعض المجموعات غير المعترفة بالثورة السورية أصلًا، والتي تتطابق رؤيتها تجاه الثورة مع خطاب النظام السوري الذي عدّ الثورة مؤامرة كونية على الدولة والشعب السوري، تستهدف ضرب موقف النظام الممانع للسيطرة الأميركية وللاحتلال الصهيوني، وهي مجموعات كان الأحرى بها أن تلتحق بوفد النظام، بدلًا من وفد المعارضة؛ ما يشير إلى حدوث تغيير في القاعدة التي تستند إليها المفاوضات أو الحوارات التي ستعقد، فبدلًا من استنادها إلى الواقع الثوري، نجدها قد استندت إلى واقع متخيل، ينضح بالخلافات والصراعات بين “الشعوب السورية”، وفقًا للتعبير الروسي الفج والمشوه، أو استنادًا إلى اعتبار الصراع السوري الحاصل حربًا، بين مجموعات مختلفة -إثنيًا وعرقيًا- تسعى للحفاظ أو لاستعادة مصالحها وحقوقها المستلبة، وفقًا للتعبير الأممي المضلل كذلك. أي قد انتقلت الجهود الدولية والأممية الرامية إلى عقد جلسات حوار وتفاوض سورية، من ادعاء سعيها لتمثيل مطالب الشارع السوري، إلى ادعائها ضمان تمثيل غالبية مكونات الشارع السوري العرقية والإثنية والسياسية، من أجل الوصول إلى شكل النظام السياسي الممثل لهم؛ ما يلغي رد الأزمة السورية إلى صراع النظام والثورة، ويستبدله بمنظومة معقدة ومتشابكة، من التداخلات والصراعات الإثنية والعرقية، لتتطابق الرؤية الروسية والرؤية الدولية، تجاه الشعب السوري. وإن اختلفت التعبيرات، وإن تراجعت روسيا عن استخدام اسم “مؤتمر الشعوب السورية”، في مؤتمرها المزمع إقامته قريبًا؛ فإن كلًا من الروس والمجتمع الدولي ينطلقان من اعتبار سورية دولة لشعوب متناحرة ومتصارعة إثنيًا وعرقيًا، وعليه يضحي الحل المنشود هو الحل الذي يمنح جميع الشعوب السورية حقها في التمثيل السياسي العادل.

لذلك؛ لم يعد لموقف أي من أعضاء الوفود المتحاورة السياسي أو الميداني من الثورة السورية، أيّ اعتبار أو أهمية للمشاركة في جلسات الحوار والتفاوض، سواء داخل الوفد الحكومي أو داخل الوفد المعارض، وهو ما يكشف عن الوجه الحقيقي للمفاوضات الحاصلة منذ 2012، بعيدًا من الخطابات السياسية والإعلامية المضللة، التي كانت تدعي تمثيل الثورة في مرحلة من المراحل، لتنكشف حقيقة القوى المشاركة في هذه المهزلة الدولية، والمعبرة عن بحثهم عن مدخل للمشاركة في السلطة، بأي ثمن كان، ومن دون أي اعتبار لمصالح الشعب السوري ولأهدافه الثورية. هذه المشاركة سوف تؤسس -إذا نجحت- لتقسيم سورية سياسيًا وشعبيًا، كما سوف تؤسس لتعزيز القدرات الاستبدادية والقمعية والأمنية في المرحلة القادمة؛ ما يعوق مقومات العمل الوطني المطلوبة، من أجل التغلب على جحافل المستعمرين وقوى الثورة المضادة والطائفيين والإجراميين التقليديين والمحدثين.

هذا الواقع الخطير ينبغي أن يدفع جميع وطنيي سورية إلى العمل على بلورة خطاب وخط وطني جامع، بعيدًا عن أوهام التعويل على هذا الطرف أو ذاك، أو عن هذه الدولة أو تلك، فقد باتت الصورة واضحة للعيان، من دون أي تجميل أو مواربة، وهذا مما يجب أن يغلق الباب كليًا، في وجه جميع الأصوات المضللة للشعب وللرأي العام التي روجت -وما زالت- لبعض الأكاذيب المرتبطة بمسار الحل السياسي الجاري. حيث لا وجود لأي مصلحة وطنية، في جلسات تقاسم وتوزيع السلطة والثروات، بين الدول المستعمرة وبين أذنابهم السياسيين الممثلين لمصالحهم.


حيّان جابر


المصدر
جيرون