واشنطن بوست: نداء ناشط سوري: لا تنسونا



بين عاميّ 2012 و2013، قضى منصور عمري عامًا جهنميًّا في عددٍ من السجون السورية السرية. كان الناشط، والصحافي معصوب العينين، ومحشورًا في زنزانةٍ مظلمةٍ مع عشرات المعتقلين الآخرين. كانت الصراصير تزحف على الأرض، والسجناء يحكّون ويخدشون جروحًا وتقرحاتٍ مفتوحة، ولثتهم تنزف بسبب سوء التغذية. “كانت رائحةً لا تُصدَّق”، كما قال العمري.
ولكن، حتى في أعماق يأسهم، كانوا متعلقين بشكلٍ من أشكال الأمل. يتذكر العمري كيف بدأ هو، وبعض زملائه السجناء، بالتمعن بكلِّ ما حولهم: فجمعوا أسماء 82 نزيلًا كانوا معتقلين في المرفق الحكومي السري، حيث كانوا محتجزين، ثم قاموا بخلط دمائهم ببرادة الصدأ، ليصنعوا الحبر، واستخدموا عظام الدجاج المجفّف كريشة، وكتبوا بدقة وعنايةٍ جميع الأسماء، والأرقام التي جمعوها على قطعٍ خشنة من القماش. وخبؤوها ضمن قميصٍ ارتداه العمري إلى اليوم الذي أُطلق فيه سراحه.
تظهر هذه القطع الخمسة من القماش الآن في معرض مخيفٍ، في متحف الهولوكوست التذكاري الأميركي في واشنطن، تبدو وكأنّها قطعٌ أثرية قديمة، لوحاتٌ شاحبة معروضة ضمن إطارٍ فرديّ محفورة بأحرف أبجديةٍ قديمة من ماض سحيق. لكنها تحكي قصةً حديثة جدًا.
يواجه زوار المبنى، الذي يؤرخ أهوال أسوأ إبادةٍ جماعية وقعت في القرن العشرين، والسياق الذي يبين كيف بدأت، الآن بكارثةٍ معاصرة: الحرب الجارية في سورية، التي أودت بحياة نحو نصف مليون شخص، وأجبرت 11 مليون شخص على الفرار من ديارهم، ودمّرت واحدة من أكثر المجتمعات في الشرق الأوسط مهابةً.
“سورية: من فضلك لا تنسينا”، هي أيضًا نقدٌ مدهش لنظامٍ يقوده بشار الأسد، الشريك في دمار البلد، واختفاء عددٍ لا يُحصى من المعارضين والمدنيين العاديين، في شبكةٍ من السجون السرية، ومقار التعذيب. وهي تجاور لوحةً فنية أخرى حول سورية، تظهر صورةً لمصوّرٍ سابق في الشرطة العسكرية السورية، حيث تظهر صوره كيف شّوّهت أجساد المعتقلين، واقتُلعت عيونهم، وبُترت أطرافهم.
يقول كاميرون هدسون، مدير متحف (سيمون-سكجودت) التابع للمركز المعني بمنع الإبادة الجماعية: “الكثير من الناس يتجولون في هذا المتحف، ويتساءلون: ماذا كنت سأفعل لو كنت أعيش في ألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي، ما نريد منهم أن يفكروا هو: أنني أعيش في العام 2017، وهذه الأشياء تجري من حولي”.
للأسف، على الرغم من أن رواد المتحف يمكن أن يقرّوا بما يحدث؛ لكن خارج المبنى يبدو أنَّ هناك القليل من الشهية للقيام بأيّ شيء أكثر من ذلك.

رجل سوري يحمل جثة طفل قتل في غارة جوية على أطراف دمشق، في 3 كانون الأول/ ديسمبر (عبد المنعم عيسى/ وكالة الأنباء الفرنسية عبر صور جيتي)
بالنسبة إلى الكثيرين في الغرب، فإنَّ الحرب في سورية ماضيةٌ نحو النهاية. بينما الأسد، الذي تدعمه إيران وروسيا، آمنٌ في دمشق، بعد أن استعاد المدن التي دمرّها في أنحاء البلاد. ويبدو أنَّه، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في موقفٍ قويّ لتوجيه العملية السياسية التي يمكن أنْ تؤدي إلى نهايةٍ مزعومة للصراع.
طُردت “الدولة الإسلامية” -وهي الجماعة الإسلامية المسلحة التي كانت تسيطر ذات يومٍ على أراض من العراق وسورية، فضلًا عن اهتمام المجتمع الدولي- من جميع معاقلها الرئيسة، واستنفدت صفوفها. في الشهر الماضي، أعلن نظام الأسد رسميًّا انتصاره على الجماعة المتطرفة. وفي يوم الخميس 7 كانون الأول/ ديسمبر، حذت روسيا حذوه، معلنةً أنَّ المسلحين الإسلاميين لم يعودوا يسيطرون على “قرية واحدة” في البلاد.
غير أنَّ السلام ما يزال غائبًا. وقد تكون “الدولة الإسلامية” قد عانت من الهزائم في ساحة المعركة، ولكنَّها ما تزال تشكّل تهديدًا قاتلًا للمدنيين في كثيرٍ من البلدان. وأكثر من ذلك، فإنَّ الظروف التي أدّتْ إلى صعودها، لم تُعالج البتة.
قال توبياس شنايدر، وهو محللٌ أمنيّ دولي، لزملائي: “ترغب الحكومات في الحديث عن (داعش)، من زاوية المقاييس والأرقام، والمدن المستعادة. ما ننساه هو أنّ (داعش) أكثر من وجودٍ على الأرض، إنَّها قوةٌ سياسية، قوة أيديولوجية، وتقول شيئًا عن العالم الذي لا زال يعيش فيه الناس في سورية والعراق”. وأضاف موضحًا: “إنّنا لا نقترب خطوةً واحدة من حل تلك السياسات”.

فلاديمير بوتين يرحب بالأسد في اجتماع في سوتشي، في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر. (ميخائيل كليمنتييف / سبوتنيك عبر رويترز)
بالطبع، بالنسبة إلى العمري، والمعارضين الآخرين، فإنَّ حلَّ تلك السياسة يتطلّب التفكر بما يعدّونه المصدر الحقيقي للخراب في سورية، وهو الأسد.
انعطف اتجاه الحرب إلى صوب دمشق، بعد أنْ انضمت روسيا إلى قصف النظام العنيف للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون عام 2015. لكن العمري قال للصحافيين، على هامش المعرض: “ليست فقط التفجيرات ما يؤذينا”. ويشير إلى قسوة دولة الأسد الأمنية المتوحشة، التي خنقت حرية التعبير لعقودٍ، ونهبت مكاتب منظمته الإعلامية، وألقت القبض عليه في شباط/ فبراير 2012.
وتابع العمري: “يأتي السلام الحقيقي، عندما تتحقق العدالة”، مشيرًا بهدوء إلى النهاية المحتملة لحكم الأسد.
عندما خرج من السجن، وهرب في نهاية المطاف من البلاد إلى السويد، حمل العمري معه همساتِ ومخاوفَ الرجال الذين تركهم خلفه في السجن.
قال العمري في شهادته للمعرض: “الناس الذين كانوا حولي، والمعتقلون، كان لديهم هذا الأمل في أنْ أتمكّن من مساعدتهم، عندما أخرج، وأنا أعمل على ذلك، في محاولةٍ لإقناع الناس، والمنظمات، والحكومات كي تفعل أي شيءٍ يمكن أن يساعدهم، هناك الملايين من السوريين الذين هم بحاجةٍ الآن إلى العدالة، وقيمة قطع القميص هذه، آمل أنْ تلعب دورًا في جلب بعض الناس للمساءلة”.
في الوقت نفسه، يريد من نشره لأسمائهم، ومحنتهم إظهار وفائه، يقول: “أنا أوفيتُ بطريقةٍ ما بوعدي لهم”. قد تكون العدالة الحقيقية بعيدةً، ولكن العمري لا يزال يعتقد أنَّها ستأتي. وقال “بالنسبة إلي وإلى كثيرٍ من السوريين الآخرين، لا يمكننا أنْ نعيش من دون الأمل”.

اسم المقالة الأصلي The plea of a Syrian activist: Don’t forget us الكاتب إسهان ثأرور، Ishaan Tharoor مكان النشر وتاريخه واشنطن بوست، The Washington Post، 8/12 رابط المقالة https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2017/12/08/the-plea-of-a-syrian-activist-dont-forget-us/?utm_term=.c7496e734201 عدد الكلمات 826 ترجمة أحمد عيشة
أحمد عيشة


المصدر
جيرون