بين حُريَّتين



في أحيان كثيرة، يجري توسيع رقعة حرية الفنان، على حساب تضييق رقعة حرية المتلقي، أو بالعكس؛ لكأنما فضاء الحريّة قطعة أرض محدودة، لا يمكن لطرفٍ توسيع رقعته إلا على حساب الآخر!

وفي الأغلب الأعم يجري الانتصار إلى حرية الفنان، وإهمال حق المتلقي في حرية مماثلة، عن قصدٍ مرة، وعن سهوٍ مرة أخرى، ومن هنا يُردّ على الطلب المغلوط: “لِمَ لا تقول ما يُفهم؟” بطلب مغلوط آخر: “ولِمَ لا تفهم ما يقال؟”.

صحيح أن المغالطة تبدأ من القرّاء، أو المتلقّين بعامّة، حين يطلبون من الفنان العمل على صوغ إبداعه وفقًا لمقياسهم وفهمهم، بيد أن ردَّ الفنان يعكس رغبة مضمرة لديه في تشكيل رؤية المتلقي، وفقًا لمنجزه المرئي أو المقروء أو المسموع!

من حق الفنان أن يعتز برؤيته وإنتاجه، ويدافع -بضراوة- عن حريته في التعبير، بيد أن ذلك يحدث مشفوعًا بالتقليل من اعتزاز المبدع بالمتلقي ورؤيته وفهمه، وكذا بحقه الدفاع عن حرية تلك الرؤية أو ذلك الفهم، وهو ما يمكن أن يفسّر زوابع الخلاف الحادّ، حين يجري حوار في عمل إبداعي ما، ويعلن المتلقي -قارئًا، مشاهدًا، مستمعًا كان أم ناقدًا- أن العمل غير مفهوم بالنسبة إليه، أو أنه لم يرُقْ له، أو أنه ضعيف، هش، إلى غير ذلك من أحكام.

في المقابل، نادرًا ما يتمّ استنكار اتّهام الفنان للمتلقي بأنّه محدود الفهم، ضيق الرؤية، ضحل الثقافة… إلخ، وذلك استنادًا إلى عَدّ العمل المُنتج هو وحدة قياس لثقافة الناس، أو أداة كشف حيادية تفرز الغث من السمين، ويظهر ذلك على نحو شديد الوضوح مع الأعمال التي حازت شهرةً، وتكرّست، سواء بجدارة العمل ودون ألاعيب تجارية وتسويقية، أو عبر الألاعيب والحملات الإعلامية.

كلنا نعرف أن كثيرًا من الآراء المخالفة للسائد والشائع، حول فنان أو كاتب أو عمل أو مجموعة أعمال؛ نادرًا ما يجري الإفصاح عنها صراحة وجهارًا في ندوة أو على صفحات دورية أو وسيلة إعلام، وإنّما تبقى في دواخل أصحابها إلى أن تُتاح فرصة بين أصدقاء حميمين، أو في خلوة بوح، فيتم الكشف عنها وإعلانها صراحة، وبشدة تتناسب مع زمن ودرجة ضبطها في الصّدور والتكتم عليها!

وبسبب من قمع الرأي العام لذاك الرأي الخاص (على غرار قمع السلطة الحاكمة لآراء المعارضة السياسية؟) فإن الإفصاح عن الرأي الخاص ذاك يجري على نحو متطرف إلى أقصى الحدود، لا قناعةً -في بعض الأحيان- لدى صاحبه، بل ثأرًا من قمع وحصار فرضهما الرأي العام فرضًا.

كيف يمكن أن نفرض رأيًا، حتى لو كان عامًّا، يفيد أن هذه اللوحة أو تلك الرواية أو المسرحية عمل إبداعي عظيم وتحفة فنية خالدة، على شخص يرى فيها عملًا عاديًا، متواضع القيمة الفنية والجمالية، لا يستأهل التوقف معه كثيرًا؟ إن أي أسباب نسوقها للتدليل على القيمة الفنية لتلك اللوحة لا تخرج عن حق النظر إليها، موازيًا ومساويًا لحق صاحب نظر مخالف.

في ظنّي أن منجز الأدب والفن يحتاج إلى الديمقراطية في حدها الأقصى؛ حرية الفنان في أن ينتج ما يشاء، بالطريقة التي يشاء، في مقابل حرية المتلقي في أن يرى ما يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ما من نصوص وأحكام مقدسة هنا تعطي حقًا لطرف، وتسلبه من الطرف الآخر.

في الواقع العملي، لا يؤخذ بذلك، وإنما تُكرس مفاهيم معينة، ثم تتحول -بالإجماع أو بالأغلبيّة- إلى قوانين تُملى على المتلقي، بقوة خافية، فتسلبه حقه بالجهر برأيه، حتى إذا ما تجرأ وفعل؛ هبَّت العواصف الاستنكارية عليه، ورُجم بالحجارة على دارج العادة الذميمة إيَّاها.


إبراهيم صموئيل


المصدر
جيرون