دوامة حرب ودوامة سلم



كثرة التشابكات الدولية والإقليمية والتعقيدات الداخلية جعلت من الحرب في سورية سلسلةً من الحروب المتعددة الاتجاهات، وجعلت من مسارات السلام انتقالًا نحو حلقة مفرغة من الفعل الدبلوماسي؛ إذ إن تضارب المسارات والرهانات المتنـاقضة التي شكّلت عنوانًا عريضًا للمؤتمرات الكثيرة المنعقدة لترتيب الشأن السوري لم تقدّم حتى الآن سوى استمرار العجز في صياغة هيكلية واضحة لسورية المستقبل.

التسابق الدولي، لإخراج سورية من مسارها الدموي، وضَع السوريين أمام رؤيتين للحلّ بإيقاعين مختلفين: الأول يتمثّل بالحلّ التجميلي الذي تُفصّله روسيا، والذي يصبّ في مسار استتباب الأمر للنظام وقرب إعادة الإعمار، والثاني في ما أقرّه البيان الختامي لاجتماع (الرياض 2)، وتشديد المشاركين على أن عملية الانتقال السياسي هي مسؤولية السوريين والمجتمع الدولي، وبالتالي تطبيق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن هو السبيل لإيجاد بيئة محايدة للسير نحو العملية الانتقالية، بدل الانصياع لما تفرضه موسكو بالتفاهم مع طهران وأنقرة. هذان الإيقاعان المتخالفان كليًا، عدا عن كونهما تعبيرًا عن الانقسام السوري الذي كان واضحًا منذ بدء الحراك، يميلان نحو المبالغة التي لا طائل منها سوى زيادة ألم السوريين الذين لم يصلوا حتى الآن إلى التزام الأطراف المتقاتلة، ومنها النظام وحلفاؤه، بوقف إطلاق النار كحدّ أدنى للبدء بالحلول، فجبهات المواجهة -وإن ضاقت حدودها- ما تزال موجودة في أكثر من مكان، والحصار والموت ما زال مخيّمًا على الغوطة الشرقية، وإدلب وعفرين لم يُحسَم مصيرهما بعد، واحتمال التدخل الإسرائيلي، في منطقة خفض التصعيد في الجنوب، صار قائمًا تحت عنوان البعد الأمني الإسرائيلي، ناهيك عن القواعد العسكرية والميليشيات الأجنبية الكثيرة والمتعددة التي يُعدّ خروجها شرطًا أساسيًا لحلّ دائم ما زال بعيد المنال، ويشكّل نقطة خلاف شائكة.

غياب الرؤية السورية الجامعة، في صياغة حلول للخروج من المأساة التي أنهكت الجميع، ما زالت تخيّم على سلوك جميع الأطراف السورية، وتدفعهم إلى الركون لما يفرضه خط التسويات الدولية والإقليمية التي ما زالت معلّقة، وخصوصًا بين الدولتين الكبريين: أميركا وروسيا. فالإدارة الأمريكية ما تزال بعيدة عن الانخراط بفاعلية لتسوية الأزمة أو امتلاك استراتيجية واضحة بشأن سورية، والتصريحات الأخيرة، حول بقاء قواتها في سورية حتى قيام تسوية تحقق التغيير المنشود، وأن لا إعمار مع بقاء الرئيس الأسد في السلطة، أجّجت الاتهامات من الجانب الروسي للقوات الأميركية، بأنها قوات محتلّة، في مقابل اتهامات أخرى من الجانب الأميركي لروسيا، وأنها لم تف بوعدها بإبعاد الميليشيات الإيرانية و(حزب الله) عن المنطقة الجنوبية، في إطار اتفاق خفض التصعيد، أي أنها عاجزة عن تنفيذ المطلوب منها كشرطي الشرق الأوسط، على الرغم مما أظهرته روسيا من مرونة في التنسيق بين إيران وتركيا، مع مراعاة المطالب الأمنية الإسرائيلية، فأميركا التي أشهرت الحرب على طهران تريد الحدّ من دورها في المنطقة، وإخراج قواتها من سورية، وروسيا عاجزة عن تنفيذ هذا الدور، في ظل تمسك حكومة طهران ببقاء قواتها، وشرعنة وجود ميليشياتها والميليشيات الموالية لها، بما يناسب سياستها التوسعية.

داخل هذه الدوامة من التداخلات وحواجز التفاهمات المرتفعة؛ يأتي حديث روسيا عن احتمال تقليص قواتها والاحتفاظ بقاعدتَي طرطوس وحميميم. ولا يعني هذا الحديث خروجها أو عزوفها عن دعم النظام، وإنما يعني إيحاء بنهاية حقبة الإرهاب، وبداية مرحلة التسوية للمعضلة السورية، والتي كان جديدها تداول اسم نائب الرئيس السابق فاروق الشرع لقيادة المرحلة القادمة، وإعطائه دورًا قياديًا رسميًا في عملية التسوية السورية. وبعيدًا عن مقدار دقة الحديث أو من رشّحه لقيادة المرحلة القادمة أو رضى بعض الأطراف الخارجية والداخلية من معارضة وموالاة، فإن الواقع السوري ومعضلاته لا تختزل حلولها بشخص، بل بمشروع إنقاذ كامل ومتكامل للخلاص من المشكلات العالقة، وأبرزها إنهاء المواجهة بين النظام وقوى الحراك الثوري، الحدّ من النزاع السني الشيعي الذي فرضته المحاور الإقليمية والتدخل الإيراني المباشر، وانتهاء التجاذبات الإقليمية والدولية، حيال المسألة الكردية، وإنهاء وجود كافة القوات الأجنبية على الأراض السورية، التي لم تخرج عن مسار لعبة التفكيك والإضعاف للسوريين، من خلال الدفع باتجاه بيئات ترتفع فيها جدران الدم، لتنشأ (سايكس بيكو) اجتماعية طائفية عرقية، بغض النظر إن كان سيتبعها تغيير في الحدود السياسية أم لا.

تزداد المرحلة الراهنة تشابكًا، ويبدو أن ركوب موجة اقتراب الحل في سورية، التي تحوّلت إلى بؤرة نزاع إقليمي دولي، قد فرَض على السوريين، كونهم أصحاب الحل أولًا وأخيرًا، الخوضَ في حروب متعددة، تجعل تصفيتها والخروج منها أمرًا صعبًا، في ظل غياب رؤية واضحة لماهيّة المرحلة الانتقالية واتجاهاتها، وهل هي انتقال نحو ما يُفصّله الآخرون من حلول متوافقة مع مسارات الإضعاف والتقسيم الداخلي، بحيث تصبح دولة لا تمتلك مقومات النهوض والاستقرار، أم نحو حرية السوريين، وحقّهم في إقامة نظام سياسي، يعبّر عن إرادتهم والتعاون على تأسيس مشروع نهضوي حضاري، يتسع للجميع، ويغلق الطريق أمام النفوذ والتدخل الخارجي، بكافة تجلياته.


هوازن خداج


المصدر
جيرون