منزلة العقل ومهاراته في الإسلام
11 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
[ad_1]
مقدمة:
احتلت قضيةُ ماهيّة العقل وحدوده ودوره حيزًا كبيرًا من الفكر الإسلامي، وبخاصة في العصر العباسي بعد ترجمة كتب اليونان، وبرزت ثنائية “العقل والنقل” بطريقة موحية -في الغالب- بتعارضهما، وإنّما الأصل أنّ النقلَ (الوحْي) جاء هاديًا للعقل تكريمًا له، كما جعل اللهُ تعالى العقلَ تكريمًا للإنسان، يقول الإمامُ القرطبي في شرح الآية الكريمة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء:70) “والصحيحُ الذي يعوّل عليه أنّ التفضيلَ إنما كان بالعقل الذي هو عُمدةُ التكليف، وبه يُعرَفُ اللهُ ويُفهَم كلامُه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله؛ إلا أنه لمّا لم ينهض بكل المُراد من العبد بُعِثتْ الرّسل وأُنزلتْ الكتب”[1].
والعقل هو المسمّى الجامعُ لملكة الإدراك التي ميّز اللهُ بها الإنسانَ، والعقلُ من روح الله تعالى الذي اختص الله بعلمه، وإخالُ أننا لا نقترب من فهم العقل إلا بمعرفة حركته، والمقصودُ بحركةِ العقل مهاراتُ التفكير كالتحليل والتركيب والاستدلال والاستنباط، والتأمل، والتدبر، والقياس، والاستقراء، والقدرة على حل المشكلات، والتفكير المنطقي الناقد، والتفكير الإبداعي.
فالعقل (المسمّى) هو الموجود بالقوة، أما التفكير فهو وجوده –أي وجود العقل- بالفعل، والجدير بالذكر أن العقلَ لم يردْ في القرآنِ الكريمِ -على كثرة وروده- بصيغة الاسم مطلقًا، بل بصيغة الفعل فقط (تعقلون، عقلوه، نعقلها)، مما يدلل على أهمية الفعل (أي التفكير) في العقل للإنسان.
مكانة العقل ومهاراته في الإسلام:
لو استقرأنا النصوصَ الشرعية من القرآنِ الكريم والحديثِ الشريف، وتأملنا رحلةَ الإسلام منذ بزوغِ فجره وإلى الآن لوجدنا من الأمر عجبًا، ومن الأدلة على المنزلة الرفيعة التي أولاها الإسلام للعقل مالا يقبلُ جدلًا أو مراءً:
فالقرآنُ الكريمُ لم ينزل على الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلّم- في غار حِراء، حيث كان يتحنّث (يتعبد) الليالي ذوات العدد إلا بعد الاستعداد الروحي والاكتمال العقلي[2]، وكانت أول آيةٍ نزلت على الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1). “كانت (اقرأ) دعوة آمرةً موجِّهةً إلى الثقافة، إلى العلم، إلى الفكر، إلى البحث المستفيض في السماء وفي الأرض، وفي الجبال، والبحار، وفي كل ما خلق الله تعالى من كائنات”.[3] فالمقصود من (اقرأ) أن تكون قراءةً واعيةً ناقدةً مفكرةً تأمليةً سابرة وكاشفة، “أن تكون قِراءَةً هادفةً تنتهي بِها إلى ربِّك، وتتعرَّفُ بها إلى ربِّك، وتُعَظِّم فيها ربَّك”.[4]
وجاء القرآنُ الكريمُ، بآياته وقصصه وأمثاله، من أجل التفكّر {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21) {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف: 176)، وما قصةُ سيّدنا إبراهيم في البحث عن الهداية الربانية، مرورًا بتجربة الوثنيات الوضعية كعبادةِ الكواكب والقمر والشمس، إلا دليلٌ على ضرورة استعمالِ العقل والتفكير للوصول إلى الحقيقة.
وجعل الإسلامُ العقلَ مناطَ التكليف (فعن عليّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبّ، وعن المعتوه حتى يعقل) سنن الترمذي1423
أتى الإسلام بعقيدة التوحيد {ألا لله الدينُ الخالصُ} (الزمر :3)؛ حيث حرر الإسلامُ الإنسانَ من قيود الشرك والوثنية “ثم بعد هذه العقيدة يستطيع الإنسان أن يأتي بتفسير كامل للحياة، وأن يقوم فكره وعمله في هذا الكون على حكمة وبصيرة”.[5] وقد حرّم الإسلام كلّ ما يصادر العقلَ أو يغيبه كالشرك والخمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90).
وتكررتْ مفرداتُ العقل والتفكّر ومرادفاتها في القرآن الكريم مئاتَ المراتِ “من باب الحثّ على استخدام العقل وإثارة الغيرة في أصحاب العقول” [6]، “ولا يُذْكَرُ العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضةً ولا مقتضبةً في سياق الآية؛ بل تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدةً جازمةً باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض، من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المُنكِر على إهمال عقله، وقبول الحجْر عليه”.[7]
وجعل الشرعُ التفكيرَ خصلةً إسلاميةً وصِفةً من صفات المؤمنين {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب}) آل عمران: 7)، كما جعل الضلالةَ والضياعَ وعدم الفقه بنواميس الكون وتعطيل قوى العقل صفةً من صفات المنافقين والكافرين والأجلاف {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (المنافقون: 7).
(وتسعى أساليبُ وأدوات منهج التفكير الإسلامي إلى استيعاب السنن والنواميس الكونية، وتحرر العقل من الفوضى وترشد حركته من خلال التفكر بالمقاصد أو مناطات الأحكام بما، وتنمي استشراف المستقبل والقدرة على تحليل النتائج من خلال التفكير بالمآلات)[8].
{أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (سورة الأعراف: 185).
وقرر الإسلامُ مبادئَ عقليةً ومهاراتٍ فكريةً، كالتجريب والمناظرة والمحاججة العقلية والحوار والإقناع والاستدلال، أسلوبًا لتقرير الحقائق الربانية؛ فالأنبياء الكرام بما أوتوا من ملكة الحكمة وقوة الخطاب والتفكير المنطقي السليم {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (سورة ص: 20) نهجوا هذا المنهج؛ فأفحموا أعداءهم، وأبهتوا الذين كفروا، وما قصة سيدنا موسى مع فرعون، أو قصة سيدنا إبراهيم مع النمرود إلا أمثلة قررها القرآن الكريم على اعتماد المنطق في الدعوة للدين المبين، والذود عنه في وجه المشككين.{قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (سورة هود:32)
كما حرص الإسلامُ على استثمارِ طاقاتِ العقل وإمكاناته على الوجه الأكمل والأسلم، لذا وجّه العقل نحو الأسئلة الوجودية والعقائدية الكبرى مثل بدء الخلق والكون والدنيا والآخرة وأحوال الأمم الغابرة والإيمان بالله تعالى.[9]
ونبذ الإسلامُ الجدلَ البيزنطي السفسطائي، وكشفَ المغالطاتِ المنطقية للمعاندين والكفار فأكّد ضرورة صحة المقدمات قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (سورة البقرة: 170) وأكد على وقاية العقلِ من التعميم في الأحكام {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون} (سورة آل عمران : 113)
أعلى الشرعُ من قيمة العقل البشري ومهاراته، عندما جعل الاجتهاد مصدرًا من مصادر التشريع، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ، والمجتهد يقوم مقام الأنبياء بوصفه مشرعًا ومرشدًا، وأهم شروط الاجتهاد هي القدرة على الاستنباط، يقول الإمام الشاطبي: (إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها). (الموافقات 4/64) وكان للاجتهاد أثره في إثراء المكتبة القانونية الإسلامية، من خلال ظهور المذاهب الفقهية، كاتجاهات وسطية بين العقل والنقل، وظهور علم الكلام، والمعتزلة كاتجاهات فكرية تتشدد في الاعتماد على العقل.
ختامًا نجد أن الإسلام قد رفع من شأن العقل والتفكير، وأمر المسلمين بالتدبر والتفكر؛ وكان من ثمارها أن خرجتْ خير أمة حملت رسالة العلم والعدل والعقل، “بينما كانت أوروبا في القرن الحادي عشر غضة فتية، بالمقارنة مع الأشكال الثقافية الأساسية للحضارة الإسلامية” [10].
ولا غرو أننا -المسلمين- مطالبون أكثر من غيرنا بالاهتمام بالعقل والمنطق؛ لأنّ ديننا يأمرنا بذلك، وقرآننا يدعونا إليه، وبخاصة في العصر الحالي؛ لذا على الإنسان المسلم أن يمتلك المهارات العقلية التي تحصنه وتقيه من أن يقع لقمة سائغة للأجندات المشبوهة المزخرفة، وتؤهله من التمييز بين الغث والسمين، والصالح والطالح، والآراء والحقائق.
المراجع والمصادر:
الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وآخرون، الجزء 13، مؤسسة الرسالة، ط 1، 2006، بيروت – لبنان.
الإسلام والعقل، الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، دار المعارف، ط 4، ص 212
الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية، أبو الحسن الندوي، طبعة خاصة – قطر- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 2015.
منهج التفكير في القرآن الكريم | د. أبو زيد المقرئ الإدريسي 1994
https://www.youtube.com/watch?v=VtcfkZjlPk8
مقال مناهج التفكير الإسلامي، د. عمر عبد الكريم، مجلة الوعي الإسلامي، العدد (622).
سلمان العودة موقع (التفكر عبادة).
موسوعة النابلسي، تفسير سورة العلق nabulsi.com
التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للثقافة والنشر 2012
وظائف العقل في القرآن للدكتور. عبد الحكيم الأنيس، دائرة الشؤون والعمل الخيري بدبي، ط 1، 2014
توبي أ. هف، ترجمة د محمد عصفور، فجر العلم الحديث، (الإسلام ا- الصين – الغرب) من منشورات عالم المعرفة- الكويت.
[1] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وآخرون، الجزء 13، ص 126، مؤسسة الرسالة، ط 1، 2006، بيروت – لبنان.
[2] منهج التفكير في القرآن الكريم | د. أبو زيد المقرئ الإدريسي 1994 www.youtube.com
[3] الإسلام والعقل، الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، دار المعارف، ط 4، ص 212
[4] موسوعة النابلسي، تفسير سورة العلق www.nabulsi.com
[5] ، الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية، أبو الحسن الندوي،2015
[6] الندوي، أبو الحسن الإسلام وأثره في الحضارة، ص 114
[7] العقاد، عباس محمود، التفكير فريضة إسلامية، ص 7، مؤسسة هنداوي للثقافة والنشر 2012
[8] د. عمر عبد الكريم، مقال مناهج التفكير الإسلامي، مجلة الوعي الإسلامي، العدد (622) ص 82
[9] انظر: وظائف العقل في القرآن للدكتور. عبد الحكيم الأنيس، دائرة الشؤون والعمل الخيري بدبي، ط 1، 2014 (وقد ذكر الكاتب 65 مسألة)
[10] فجر العلم الحديث، ص 116
محمود عيسى
[ad_1]
[ad_2]
[sociallocker]
جيرون