هل تختلف حقًا الطموحات الإمبراطورية الفارسية عن الروسية



منذ أن انتصرت “ثورة” الخميني الإسلامية المزعومة عام 1979؛ بدأ تصدير “الثورة” الإسلامية في شكلها، والقومية الفارسية والشيعية الدينية في مضمونها، وأخذت تنشر القلاقل وعدم الاستقرار في المنطقة، أو “الفوضى” على الطريقة الأميركية؛ لكي تخلق تربة خصبة لها للبقاء والتوسع والهيمنة.

بعد انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، شهدنا دعمًا هائلًا من قبل دولتين لنظام الأسد المجرم، هما روسيا وإيران. ولطالما اعتقد المحللون -وأنا منهم- أن أجندة نظام الملالي في المنطقة مختلفة عن الأجندة الروسية؛ فبينما يسعى نظام ولي الفقيه إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية الصفوية منتقمًا من العرب، كان ينشر في الوقت نفسه التشيع بين الناس، وخصوصًا المسلمون، ليثأر لدم الحسين من أحفاد الأمويين. وهذا يعني أن الخطر الإيراني ذا أبعاد قومية وطائفية، وأن إيران تتغلغل بين عقول الناس، ويصبح من الصعب فيما بعد استئصال هذا السرطان من الجسم العربي والإسلامي.

كنا نقول إن لروسيا أجندة جيوسياسية، تتعلق بالمصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية في سورية، ولكن الحقيقة أن الأجندة الروسية شبيهة بالأجندة الإيرانية، فلها أيضًا أبعاد قومية روسية ودينية أرثوذكسية. وهكذا أصبحت بلادنا بين فكي دولتين، تطمح كل منهما إلى تكريس أجندتها بعيدة المدى.

وهنا يجب أن نراجع للتاريخ، ولكي نفهم السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية، لا بد من البحث في خلفيات الأيديولوجيا الجديدة التي تقف وراء هذه السياسات؟ فكيف نفهم حقيقة التدخّل العسكري الروسي في سورية، وقبل ذلك في أوكرانيا، من دون سبر أغوار التفكير السياسي للقادة الجدد في الكرملين، ومن دون الوقوف على المرجعية الفكرية للرئيس فلاديمير بوتين؟

يجد الباحثون أن سؤال الهوية القومية في روسيا لم يغفُ، منذ استفاق لحظة توحّد الإمارات الروسية، منذ أكثر من ألف سنة إلى اليوم. السؤال الذي يقول: “مَن نحن” ظلّ يؤرق المفكرين والكتاب الروس؛ وتجدهم في حالة بحث دائم عن فكرة تقوم عليها دولتهم. فهل تعود جذور هذا السؤال إلى مخاوف داخلية أم إلى مشاريع خارجية؟ ومنهم من يقول إن الروس ينتمون إلى أوروبا، وآخرون يعدّون روسيا دولة شرقية آسيوية، لكن الاتجاه الأقوى هو الذي يدعو إلى نظرية “الأوراسيا” (كلمة أوراسيا منحوتة من كلمتين أوروبا وآسيا).

يجدر بنا التذكير كيف انقسم المثقفون الروس، في حقبة “ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي” عام 1991، إلى فريقين: الأول رحّب بالليبرالية والانفتاح الاقتصادي، بعد عقود من الاشتراكية والعزلة عن العالم الخارجي، حيث رأى هذا الفريق في التغيير السياسي والاقتصادي فرصة لتوسيع مساحة الحريات المدنية، واللحاق بركب النمو الاقتصادي العالمي، والفريق الثاني عبّر عن الحنين إلى الأيام الإمبراطورية، معتبرًا “انهيار الاتحاد السوفيتي بمثابة الكارثة الجيوسياسية الأكبر في هذا القرن”، على حدّ تعبير فلاديمير بوتين. وبينما انصرف الفريق الأوّل، من الليبراليين ورجال الأعمال، إلى بناء الشركات والاستثمارات مع نظرائهم الغربيين، انشغل الفريق الثاني بالتنظير لأيديولوجية جديدة، تُعرف باسم “الأوراسيا”، على طريق استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، والانتقام من القوى الغربية التي تآمرت على الاتحاد السوفيتي وأودت به.

أفكار دوغين حول الأوراسيا الروسية

تعود نظرية (الأوراسيا) الروسية إلى المفكر والفيلسوف ومنظر الكريملين ألكسندر دوغين، صاحب كتاب (أسس الجيوسياسة، مستقبل روسيا الجيوسياسي)، الذي وصف المعركة بين روسيا والغرب بصراع ملحمي مع المادية الأميركية، وفي مرحلةٍ ما من هذا الصراع سيتم تدمير “الإمبراطورية الأميركية”. وكانت تعتقد الغالبية أن هذا الصراع كان صراعًا أيديولوجيًا، بين النظرية الشيوعية والرأسمالية. لكن المفكر الروسي دوغين يرى أن الصراع الأميركي السوفيتي، والأميركي الروسي من بعده، هو صراع حتمي، ويذهب مذهبًا عاطفيًا وعنيفًا في هذا الكتاب، ويقول إن هذا الصراع الحتمي لن ينتهي إلا بتدمير أحد الطرفين للآخر. مركزًا على كون روسيا، وهي التي تمثل مساحتها أكثر من ربع مساحة العالم، جديرة بلعب دور محوري في التحالف الأوراسي الجديد. ويسمي دوغين الصراع على أنه يدور أساسًا بين القوى البرية (معتبرًا روسيا قوة برية) والقوى البحرية (معتبرا أميركا قوة بحرية)، وليس بين القوى الرأسمالية أو الاشتراكية.

يدعو دوغين إلى ضرورة تشكيل “تحالف أوراسي” بقيادة روسيا، يضم جمهوريات آسيا الوسطى وألمانيا وأوروبا الوسطى والشرقية ومعها إيران وتركيا، وإقامة تحالف مع الدول الإسلامية لضمان وصولها إلى المياه الدافئة، ويصل دوغين إلى استنتاج يفيد بأن أفكار النزعة الأوراسية المحافظة هي التي يجب أن تكون قاعدة للسلطة الروسية الحالية. وتؤمن الأوراسيا بما تسميه “التعقيد المزهر”، وهو التنوع العرقي الذي يُغني ويزهر، ويخصّب المجتمع الروسي بإثنيات تتشارك في بناء الدولة، الدولة الروسية بالمعنى المحدد، والدولة والقارة الأوراسية.

يقول دوغين: إن الفاشية والماركسية خسرتا في اللعبة العالمية، بينما صعدت الديمقراطية الليبرالية إلى السلطة، وأصبح العالم بأسره يعيش تحت حكم الأيديولوجيات الليبرالية الديمقراطية، التي تمحو التقاليد والثقافات في البلدان التي تهيمن عليها. بينما تتجسد النظرية السياسية الرابعة (الأوراسيا)، برأي دوغين، في الاتحاد ضدّ الليبرالية الديمقراطية، وتعزيز قيم الثقافة والتقاليد الوطنية.

تصف الأوساط الغربية التي تُلقب الفيلسوف دوغين، بـ “دماغ بوتين”، بأنه “العقل المدبر” وراء قرار ضمّ الرئيس بوتين لشبه جزيرة القرم. فقد حرض منذ العام 2008، خلال الحرب بين روسيا وجورجيا، على التركيز على أهمية ضمّ شبه جزيرة القرم. وقد دعا آنذاك إلى نشر القوات الروسية على طول الطريق إلى العاصمة الجورجية: تبليسي، والإطاحة بالرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، ثم الانتقال للسيطرة على شبه جزيرة القرم، على أن يتبعها تدخل عسكري في شرق أوكرانيا، التي يسميها دائمًا “نيو روسيا”، التي تستخدم كثيرًا من قبل القادة الروس.

وقد أعلن الرئيس بوتين، في الأول من تشرين الأول/ نوفمبر عام 2000، أن روسيا “هي دولة أوراسية”، وهذا التعبير -على إيجازه- يحمل برنامجًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا لسياسة بوتين ولمستقبل روسيا، وقد بادرت روسيا عام 2011 إلى توقيع الاتحاد الجمركي مع بيلاروسيا وكازاخستان، وكان قد تم التوقيع على اتفاقية “الأمن الجماعي”، بين روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأوزبكستان، وتعمل روسيا على بناء تحالفات اقتصادية وسياسية، تضم أكبر الدول الآسيوية مثل الهند والصين (بريكس).

التداخل بين أوراسيا الروسية والمسيحية الأرثوذكسية

التقى الرئيس بوتين منذ أيام بممثلي الكنائس المسيحية الأرثوذكسية في موسكو، وأكد لهم التزام روسيا بإعادة إصلاح وترميم الكنائس والمساجد المهدمة في سورية، وكذلك المعابد اليهودية، وأفصح عن لقاءات عديدة، جرت بينه وبين ممثلي المنظمات اليهودية الأميركية والأوروبية التي نقلت له مخاوفها من موجات معاداة السامية التي تنتشر في أوروبا وأميركا، وبخاصة بعد الهجرات الواسعة من الشرق الأوسط إلى أوروبا وأميركا، على إثر أحداث “الربيع العربي”، متهمين من يثير الخوف لديهم بالإرهابيين.

ويجب ألا ننسى أن روسيا القيصرية أصبحت وارثة بيزنطة، بعد سقوط القسطنطينية عام 1453 على يد السلطان محمد الفاتح. كما أن الصقر الثنائي الرأس، شعار روسيا الحالية، يعود إلى الإمبراطورية الرومانية، وقد كان آنذاك رمزًا لتوحيد شطري الإمبراطورية الشرقي والغربي، إلى أن انهار الغربي، وورثت الشرقي بيزنطة، جاعلة الصقر الثنائي الرأس تعبيرًا عن سلطة لها تشمل أوروبا وآسيا. ثم أخذته روسيا عن بيزنطة، وجعلته مطابقًا للأصل البيزنطي (صقر ذهبي على درع أحمر)، مؤكدة حمولته الرمزية. يعدّ الصقر الثنائي الرأس من أقدم الرموز السياسية، فقد عُثر على أولى رسومه في آثار سومر. ويعتبر الصقر الموروث، منذ ذلك الحين، رسالة رمزية إلى روسيا تضع بين يديها مهمّة متابعة ما ستنتهي دونه الإمبراطورية البيزنطية. وحملت روسيا الأمانة، دينيًا وثقافيًا وسياسيًا.

ويعود التاريخ الرسمي لتعميد روسيا (لتصبح مسيحية) إلى نهاية صيف 988. العام الذي جمع فيه الأمير فلاديمير (أمير كييف الروسية) جميع سكان كييف على شاطئ نهر الدنيبر، ليعمدهم في مياهه قساوسةٌ بيزنطيون. وبدأت عملية نشر الدين المسيحي، في عموم روسيا، ومن المشرق البيزنطي جاء أوائل المبشرين المسيحيين إلى روسيا.

من عمق التاريخ، نجد علاقة وثيقة بين مشروع (روما الثالثة) الذي تعتبِر روسيا نفسها حاملة له، وحلم إمبراطوري أوراسي سياسي واقتصادي وعسكري، الأمر الذي يفسر التطابق في المواقف حيال هذا المشروع بين الكنيسة والكريملن. ومنه، فليس اشتغال الكريملن الحالي على أوراسيا جديدة إلا امتدادًا لحلم كنسي، ومتابعة لمشروع إمبراطوري روسي، كان الاتحاد السوفيتي واحدًا من تجلياته. ويُراد لأوراسيا الجديدة أن تكون قطبًا فاعلًا وقوة اقتصادية وعسكرية أقدر على مواجهة المشاريع الأميركية، ويضمر لها أن تخدم في الوقت نفسه حلمًا روسيًا قديمًا، وفكرة قومية جامعة للروس، يتكئون عليها للنهوض من جديد بعدما أقعدهم انهيار الاتحاد السوفيتي، طوال عقدين.

الكنيسة الأرثوذكسية وصفت تدخل موسكو في سورية بأنه “حرب مقدسة“

قال فسيفولود تشابلين، رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة عام 2015: “إن الحرب على الإرهاب معركة مقدسة، ولربما كانت بلادنا اليوم هي القوة الأكثر نشاطًا في العالم، في مجال الحرب على الإرهاب”. مثل هذا التفكير ليس جديدًا أبدًا. فقد استخدم بوش تقريبًا الكلمات ذاتها يومَ قال، بُعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة: إن “هذه الحرب الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب، ستستغرق وقتًا”. وبالفعل، لقد استغرقت وقتًا. وقام رجال الكنيسة الأرثوذكسية بتعميد الطيارين الروس بمياه مقدسة، جلبت من روسيا إلى قاعدة حميميم، أكبر قاعدة عسكرية روسية في سورية.

وليس صدفة أن يستخدم الرئيس الروسي أيضًا مصطلح “الصليبية”، عندما ندد (وكان حينها رئيسًا للوزراء) عام 2011 بقرار مجلس الأمن الدولي القاضي بفرض عقوبات على النظام الليبي، مشيرًا إلى أن هذا القرار يشبه الدعوة إلى “الحملة الصليبية في العصور الوسطى”.

نرى، من متابعة الأجندات الحقيقية الروسية بمقارنتها مع الإيرانية المعروفة، أن الدولتين كلتيهما تسعيان إلى أهداف متشابهة من حيث الجوهر، ولكنها مختلفة من حيث الشكل. ولذلك فالوجود الروسي في سورية استراتيجي وليس مرحلي، وهو جزء من خطة روسية، تتعلق بالتمركز في الشرق الأوسط، لكي تبني مشروعها الأوراسي الذي تلعب روسيا فيه دور القلب، لذلك الصقر ذو الرأسين ينظر في الوقت نفسه إلى الشرق والغرب.

وليس صدفة أن يقول المفكر الاستراتيجي الأمريكي زيغنيو بريجنسكي في كتابه الشهير (رقعة الشطرنج) إن على الولايات المتحدة أن تحرم روسيا من ثلاث دول ركائز جيوسياسية مهمة، بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وهي أوكرانيا، وأوزبكستان وأذربيجان، وذلك لكي يجابه المخطط الأوراسي الروسي. وها قد سقطت أوكرانيا.

أخيرًا، نذكر بأن المرجعيات الإيرانية استخدمت حججًا وأوصافًا مشابهة حول الطابع المقدس للحرب التي يخوضونها في سورية دفاعًا عن المقدسات. ويسعى نظام ولي الفقيه إلى تصدير ثورته المشؤومة لكي تقضي على العرب السنة، وتمهد لقدوم المهدي المنتظر فتهيمن على العالم.

ولا نعرف ما هي حقيقة العلاقة، بين التوجهات الروسية والإيرانية في المنطقة، ومتى ستصل إلى نقطة الافتراق.


محمود الحمزة


المصدر
جيرون