حول استحالة تقسيم سورية والمنطقة



ثمة تصريح غير علني، داخل أروقة الأمم المتحدة في أثناء انعقاد جمعيتها العامة الـ 72 أواخر شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، للمبعوث الأممي الخاص بالأزمة السورية ستيفان دي ميستورا، حول ما اعتبره “تقسيمًا ناعمًا” لسورية، تناقلته الصحف وبعض مواقع التواصل الاجتماعي، وفسّرته على أنه “تقسيم غير رسمي على الأرض، يتعاطى مع وقائع الحرب”.

ربما يكون هذا الكلام صحيحًا إلى درجة عالية، فكل الأطراف الإقليمية والدولية الكبيرة والفاعلة التي تُهيمن على الأرض في سورية، من خلال أدواتها المحلية أو متعددة الجنسيات، أو بتدخلها المباشر، بدأت تُفكّر بمرحلة ما بعد (داعش)، على أساس تقاسم الحصص ومناطق النفوذ المباشر لها في مناطق سيطرتها، وفق مصالحها الإقليمية والاستراتيجية الخاصة، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى تقسيم رسمي نهائي باتفاق دولي واضح، بل تُجمع تصريحات كبار المسؤولين، لأغلب تلك الأطراف، على المحافظة على وحدة الدولة السورية مستقبلًا.

ربما يتلخص التفسير السهل المباشر الذي يتبادر إلى الذهن حول ذلك، في ثلاثة أسباب:

أولها: الاستعصاء الحاصل، في الاتفاق بين هذه الأطراف والقوى الفاعلة، حول كيفية الدخول في مرحلة الحل السياسي، وعقدة الاستعصاء الأساسية هنا صارت معروفة للجميع.

ثانيها: صراع الإرادات والمصالح بين هذه القوى الفاعلة، إلى درجة إمكانية التصادم، الأمر الذي لا يسعى إليه أي طرف، بسبب مفاعيله الخطرة على المنطقة ككل، ولا سيما مع ظهور دول إقليمية جديدة قادرة وقوية، كإيران التي تعكس تصريحات كبار مسؤوليها وقادتها العسكريين رغبة الهيمنة التامة، ليس على سورية فحسب بل حتى على العديد من دول المنطقة العربية، وتركيا التي لا تخفي إرادتها بمساحات جغرافية واسعة قريبة من حدودها، لدرء خطر “الإرهاب الكردي”، عدا عن تضارب المصالح الكبير والمرامي السياسية البعيدة بين الدولتين القويتين: روسيا والولايات المتحدة الأميركية.

ثالثها: تكلفة إعادة الإعمار الباهظة جدًا، والتي لا تستطيع بعض هذه الأطراف تحمّل نفقاتها وحدها حتى في مناطق هيمنتها التابعة لها.

قد يتفق أو يختلف البعض مع صحة تشخيص ما تقدّم، لكن المؤكد أن المشهد السوري الحالي، كتفصيل يُكثّف حالة المشهد العام المتوتر بكل تناقضاته في المنطقة، بات يختصر فعلًا حالة “الفوضى الاستراتيجية” السائدة في العالم، وهنا يكمن الجذر العميق لحالة عدم الاتفاق على إعادة رسم خريطة جيوسياسية جديدة، على أنقاض خريطة “سايكس-بيكو” كحدود حالية لسورية وكافة دول المنطقة، وهو ما يمكن الإشارة إليه باقتضاب بما يلي:

خلخلة الوضع الدولي الحالي

ليس حنينًا لمرحلة الحرب الباردة التي أُسدل الستار عليها نهائيًا، منذ عقدين ونصف، الكشف عن حقيقة راهنة، هي أن العالم ما زال، بعد تلك المرحلة، في حالة سيولة وتشكّل استراتيجي، جيوسياسيًا واقتصاديًا ومفاهيميًا -إن صح التعبير- لم تكتمل أو تنضج بعد.

فالتأمل الدقيق في سياق اللحظة العالمية الراهنة التي لم تقطع بعد مع آثار ونتائج انهيار مرحلة الحرب الباردة، أواخر القرن الماضي، يجعلنا نلحظ بوضوح كبير خلخلة قطبية في النظام العالمي الحالي، حيث لم تستطع الولايات المتحدة فرض سيطرتها، كقطب عالمي أوحد بالرغم من أنها ما زالت الأقوى، حتى إن تحالفها الاستراتيجي العميق السابق مع حلفائها الأوربيين تتخلله بعض الخلافات العميقة، وبخاصةٍ في ظل إدارة ترامب الحالية.

أيضًا ثمة طموح جامح وقوي اليوم، لدى “روسيا بوتين”، في محاولة عبثية لاستعادة دورها الدولي السابق، لكن من دون جدوى على ما يبدو، لأنها تعتمد معادلةً لا يتوافق طرفاها الأساسيان كضرورة للنجاح في ذلك: البلطجة العسكرية الواضحة، والفاقدة لقاعدتها الاقتصادية القوية الممولة من جهة، وتكتيك إدارة الرئيس (بوتين) السياسي الذي يفتقد تقاليد التمرين السياسي الديمقراطي داخليًا وخارجيًا، والفاقد أيضًا لعمق أيديولوجي فكري، يؤهّل لرؤية استراتيجية دولية وازنة بعيدة المدى، من جهة ثانية. لذلك فهي تُنسّق باستمرار مع “إيران” كحاجة اقتصادية، وكورقة وحيدة قوية تبدو رابحة لها في المنطقة، على الرغم مما بينهما من تباعد سياسي عقائدي واستراتيجي.

أما المنافسة الحقيقية والأقوى، فتأتي من جنوبي شرقي آسيا، من الصين تحديدًا. حيث تؤكد نتائج المؤتمر الـ 19 الأخير للحزب الشيوعي الصيني الحاكم، أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، النجاح الباهر للتجربة الصينية، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي، وما أعقب ذلك من تصريحات طموحة لزعيم الحزب تشير إلى رغبة قادة الصين في محاولة صوغ العالم، على نمط التجربة الصينية الحالية، نتيجة الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي تعيشها، وبذلك تكون الصين قد صارت المنافس الاقتصادي الأقوى للولايات المتحدة.

لكن المشكلة ليست هنا، وإنما -كما تشير الآراء والتحليلات- تكمن في دعمها الحاضن بهدوء وصمت لنظام كوريا الشمالية، في تجاربه الصاروخية الباليستية وترسانته النووية المرعبة فعلًا، وكأنها تريد بذلك أن تُؤمّن درعًا نوويًا، يحميها ويحمي استراتيجيتها من خارج حدودها، خصوصًا لصلة القربى الأيديولوجية، وإن كانت واهية بين البلدين، وبحكم كونهما يقفان في الاصطفاف السياسي نفسه، ولو بالحد الأدنى، في مواجهة العديد من الملفات الكبيرة في جنوب شرقي آسيا وفي العالم.

كل ذلك يحصل دون أن تتمكن الولايات المتحدة والغرب عمومًا من التدخل الحاسم والحازم، حيال نظام كوريا الشمالية إلا عبر التهديد والوعيد المرعب بدوره أيضًا.

أما تركيا -كدولة إقليمية- فلها دور فاعل ومؤثر نسبيًا في سورية والمنطقة، فعلاقتها الاستراتيجية بالحلف الأطلسي وبالغرب عمومًا تمر بفترة خلخلة واضحة، لا يُعوّض عنها علاقة التجاذب والتنافر الحالية، بينها وبين روسيا وإيران.

أما أوروبا، وبالرغم من قوتها الاقتصادية الكبيرة، فقد انحسر دورها السياسي من موقع المشاركة القوية بالقرار الدولي، كما كان إبان الحرب الباردة، إلى موقع التصريحات الشاجبة أو المؤيدة للمتفرج الذي لا حول له ولا قوة، وتهتم بمعالجة الجانب الإنساني لجهة اللاجئين والفارين إليها، فضلًا عن عودة قوية مقلقة للتيارات الشعبوية اليمينية المتطرفة داخلها.

كل ذلك يزيد ويُعمّق حالة الخلخلة الحاصلة في العلاقات الدولية الراهنة، ويفصح أكثر عن “فوضى استراتيجية” تحكمها.

أزعم، من كل ما تقدم، أن الوضع العالمي الحالي، لا سيما في نادي الكبار، لا يستطيع تحمّل مسؤولية تبعات وهضم إعادة رسم خرائط جيوسياسية جديدة، لا في سورية ولا في المنطقة العربية ولا في العالم، كما حدث في مرحلة بين الحربين العالميتين، إذ كان سباق النظام الرأسمالي العالمي لاقتسام تركة الإمبراطوريات الزائلة واقتسامها، أو في مرحلة الحرب الباردة حين استقر العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية على نظام القطبين، وتقاسم الهيمنة على العالم على أساس ذلك، لِما يستلزم ذلك اليوم من اتفاق دولي مسبق هو مهزوز وهش، منذ مدة طويلة، وما يتبع ذلك من مسؤوليات مادية ومالية، سوف تخضع بدورها لشروط وغايات سياسية غير متفق عليها.

لعل فشل تجربتَي محاولة إعلان انفصال إقليم “كردستان” في العراق، وإعلان انفصال “كتالونيا” في إسبانيا، وموقف النظام العالمي الحالي، بما فيه القوى الدولية الكبرى وهيئة الأمم المتحدة، السلبي تجاههما، خير مثال على ذلك، على الرغم من أن البنى التحتية والتأييد الشعبي المحلي يؤهلان هذا الانفصال، في كلا الإقليمين.

بالعودة إلى الوضع السوري، فإن وضع اليد على البلد بهذه الطريقة، جاء نتيجة استعصاءين كبيرين هما:

1 – المحافظة على وحدة البلد، ولو فدراليًا، من مدخل حل سياسي متفق عليه، بين كل الأطراف.

2 – تقسيم البلد رسميًا وبشكل نهائي، نتيجة صراع الإرادات الدولية وتضاربها، قد يكون هو السيناريو الأسوأ، ليس على سورية فحسب بل على كل الأطراف والقوى المتدخلة فيها، في حال طالت المدة كثيرًا.

ربما في هذا بعض ما يُفسّر الاستعجال الروسي اليوم، بغطاء دولي يحاول الرئيس (بوتين) تأمينه، في محاولة الخروج من هذا السيناريو المأزق فعلًا، باتجاه توافق وظيفي، ولو كان هشًا، بين النظام والمعارضة، يخدم مصالح روسيا وامتيازاتها لأمد بعيد.


معاذ حسن


المصدر
جيرون