دولة السلطة.. ودولـــة الأمـــة



على الرغم من أن كلمة (شعب) تُطلق على سكان دولةٍ ما، سواء كان هؤلاء السكان يشكلوّن أمة، أو جزءًا من أمة، أو خليطًا من أمم مختلفة؛ فإنّ الأوضاع المصطنعة لهؤلاء السكان تَحول دون استقرار الدول، ودون استقلالها استقلالًا حقيقيًا، بل قد تؤدي إلى خلق الصراعات بين السكان، عوضًا عن أن تجعل منهم (شعبًا). لهذا فإن الفقه الحقوقي الإنساني الشامل غير المنحاز، والذي لا ينظر إلى العالم من زاوية ضيقة تتعلق بقارّة، أو أمة، أو طبقة ما، قد ربط استقرار الدولة بتأسيسها على أساس من (الشعب) الحقيقي.

يقولون إنّ عوامل الأمة هي: الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الآمال المشتركة. ويقول د. ثروت بدوي: “لا يلزم لقيام الأمة تحقق هذه الروابط جميعًا، وإنما يكفي أن تستوطن جموع من الأفراد إقليمًا مُعيّنًا، بدافع الرغبة في العيش معًا، أي أن الأمة تقوم على عنصرين: عنصر مادي، وعنصر معنوي”(1).

يبحث د. بدوي عن عوامل لاستقرار الدولة، فيقول: “السلطة السياسية إذ تستمد وجودها من تنظيم الأمة نفسها ويلزم اعتراف الجماعة بها، فقد انتهى عهد السلطة التي تستند إلى مجرد القوة، منذ أن استشعرت الجماعة أنها صاحبة السلطة، وأن الحاكم ليس إلا أداة تنفيذ في يدها، والسلطة ما لم تستند إلى إرادة الجماعة التي تحكمها، تكون (سلطة فعلية) لا تسمح بقيام الدولة، بالمعنى الحديث”(2)، ويضيف: “لعل السبب في عدم استقرار السلطة في المجتمعات السياسية السابقة على قيام الدولة هو أنها لم تكن تستند إلا إلى قوة صاحبها”(3).

إن القول الفصل، بين (دولة الحاكم أو المستبد)، و(دولة الأمة، أو الشعب، أو كل الشعب)، هو أن يكون الأساس المجتمعي للدولة حقيقيًا، وليس مصطنعًا، فمن الممكن أن توجد الأمة قبل قيام الدولة، لكن تنظيم سلطة سياسية يخضع لها أفراد الأمة “هو الذي يجعل من هذه الأمة دولة”(4)، ومّما لا شك فيه أن “الانسجام والتوافق بين الأفراد الذين تقوم عليهم الدولة لا يتحققان بصورة كاملة، إذا لم يتبع هؤلاء الأفراد أمة واحدة”(5).

الدولة بعد تأسيسها لا تفلت من إرادة المجتمع، فإذا تمكن منها غاصب أو مستبد، أو طبقة أو عصابة؛ فإنها تتحول إلى أداة قهر للمجتمع، وكما يقول راد ومير لوكيل: “إذا لم تكن الدولة ولم يكن القانون إبداعات إلهية وإنما إبداعات بشرية؛ فإن البشر يستطيعون أيضًا بوعي وبإرادة تغيير الدولة والقانون اللذين لا يناسبان مفاهيمهم، وبناء دولة وقانون بشكل أفضل ومختلفين عن الأولين”(6).

وهذا القول على أكبر قدر من الأهمية؛ ذلك أن أجهزة الدولة ومؤسساتها يجب تذكيرها بين الحين والآخر أنها أداة المجتمع، وليس هو أداتها، وأن القوانين الوضعية التي وضعها المؤسسون، أو من يليهم، ليست فوق إرادة المجتمع الذي يملك تعديلها، أو تغييرها متى أراد، وإن أي خلل في هذه القاعدة يمكن أن يكون منفذًا ينفذ منه المستبدون والغاصبون للسلطة، في كل زمان ومكان.

يضيف لوكيل: “إن النشاط البشري هو من حيث المبدأ نشاط واع، موجه بوعي محدد بأهدافه وآثاره، وانطلاقًا من هذا يُحسن تمييز أسلوبين ممكنين لتعديل الدولة والحق: أحدهما يمكن أن يوصف بالعفوية، والآخر بالإرادية المخططة، والواعية بالمعنى الضيق للكلمة”(7).

إن أكثر النظريات (العلمية) الحديثة تماسكًا، والتي قللت من أهمية التكوين القومي للأمم، واعتبرته مجرد انعكاس لسيطرة الطبقة البرجوازية، وأن (الدولة القومية) ما هي إلا أداة الرأسماليين لقهر لمجتمع واستغلاله، عادت بعد التجارب المريرة تتلمّس الطريق إلى نظرية جديدة في (القومية)، و(الأمة)، و(الدولة).

فهذا راد ومير لوكيل، أستاذ القانون العام في جامعة بلغراد، يضطر وهو يبحث في (الحق، والقانون) إلى أن يعترف أن المنهج (الجدلية المادية) لم يسعفه، وإنه يضطرّ إلى استعمال مناهج مختلفة لتفسير ظاهرة الحق، والقانون. يقول لوكيل: “إذا بدا، بصدد ظاهرةٍ ما، أن فرضية عامة للديالكتيك ليست صحيحة؛ فعندئذ يجب لهذه الفرضية أن يُعاد التأمل فيها”(8).

ويُضيف: “يستوجب لكل علم العودة إلى مناهجه الخاصة، وبعبارة أخرى: لا يمكن لعلم أن ينتظم بالتطبيق الوحيد للمنهج الديالكتيكي العام. وهكذا فإن الجدل بالقول “إن الحق هو ظاهرة روحية”، يرجع إلى المنهج المناسب الذي يعتبر الحق كظاهرة من هذا النوع، والذي يجمع الوقائع المعنية. وهكذا فإن الحق هو بصحيح القول، أساسًا، ظاهرة روحية، ولكنه أيضًا ظاهرة اجتماعية، ولدراسته -بتلك الصفة- يكون من الضروري استعمال مناهج مختلفة”(9).

قبل لوكيل، كان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي قد أقر الانتقال من دولة (ديكتاتورية البروليتاريا)، إلى (دولة كل الشعب)، بعد أن كان المنتظر الانتقال إلى الشيوعية حيث (اللا دولة) أو على الأقل البقاء على ديكتاتورية البروليتاريا، حتى (تنضج الظروف) للانتقال إلى (الشيوعية).

ولنتابع الجهود المضنية التي بذلها راد ومير لوكيل، للتوفيق بين الموقف من القومية، والأمة، والحق، والقانون، والدولة من جهة، وبين (فرضيات) الديالكتيك المادي عن ذلك.

يقول راد ومير لوكيل: “إن الالتزام بإنشاء دولة قومية، كمبدأ أساس، أثار سلسلة من المشاكل التي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ جدًا على تطور الدولة والحقوق”(10)، ويضيف: “لقد كان يوجد دومًا دول تشتمل على عدد من القوميات -الدول المتعددة القوميات- كما وجد، وما زال يوجد حالات، حيث تكون قومية مُقسمّة إلى مجموعة دول، ولكن عندما يوجد القسم الأكبر من قومية ضمن دولة، والبعض من عناصرها يوجد موزعًا في دول أخرى، فإن هذا يشكل عندئذ ما يسمى أقليات قومية داخل هذه الدول، وهذه الحالة ما زالت مألوفة جدًا، وتطرح العديد من المشكلات، ويجد المبدأ السياسي لإنشاء الدول القومية تعبيرًا عنه في ما يسمى (بحق القوميات بتقرير المصير)، أو في (السيادة القومية)، وفي (الحق السياسي) المعترف به للقومية لتقرّر إلى أي دولة ستنتمي”(11).

كيف نحدد جوهر الدولة وشكلها؟

يقول لوكيل: “إن جوهر الدولة والحق محدّد بالأساس الاقتصادي والبنية الطبقية للمجتمع، أما فيما يتعلق بشكل الدولة وعدد سكانها… إلخ؛ فإن هذا يتبع غالبًا الظروف القومية، والتي هي من جهة أخرى ما زالت تتبلور مبدئيًا (كظواهر اقتصادية). ويوجد اتجاه لمطابقة الدولة والقومية، إن لم يكن كليًا، فعلى الأقل القسم الأكبر”(12)، لماذا؟ “لأن الخصائص القومية في الأساس ذات فوارق جادة، تفصل الدول والأنظمة الحقوقية التي تطابق جوهرها -الاقتصادي والطبقي- ولأن عددًا كبيرًا من الظواهر في الدولة والقانون يفسر بأصلها فقط”(13).

كيف تؤثر الدولة على القومية؟

“إن للدولة، والقانون تأثيرًا كبيرًا على القومية، على تكونهّا، وعلى وجودها، وعلى تطورها، فالدولة، والقانون يربطان الأفراد بقوة ويدعمان أو يدمّران الصلات الاجتماعية الأخرى، وحتى الصلات القومية، وبناء عليه، فإن الدولة والقانون إما أنهما يدعمان القومية بمساهمتهما بتطورها، وإما أنهما يضعفانها ويدمرانها. ويشكل الاضطهاد القومي المُمارس على القوميات المحرومة من حريتها عائقًا مؤثرًا جدًا دون تطور بعضها، ولو أنه من النادر أن تدمر بكليتها من جراء هذا الاضطهاد القومي؛ لإن القوميات غالبًا ما تنجح في النهاية بالاستمرار في حياتها، وتخلّص نفسها من هذا الاضطهاد. ويجب أن نشير إلى أن عملية تشكيل القوميات ذاتها تلعب بها الدولة والقانون دورًا مهمًا، بصورة خاصة، وإن لم يكن حاسمًا، فالانتماء المتواصل لدولة عامة، بشرط ألا يوجد عناصر أخرى من الانحلال بين جماعات شعبها المختلفة، يوصل في النهاية إلى ذوبان السكان في قومية واحدة، بالرغم من بعض الفوارق العنصرية”(14).

هل يختلف الأمر إذا كانت الطبقة المسيطرة، والطبقة المحكومة من قوميتين مختلفتين؟ “من النادر أن تكون الطبقة المحكومة والطبقة المسيطرة من قوميتين مختلفتين، وبخاصة في دولة حديثة، فغالبًا ما تكون الطبقة المحكومة والطبقة المسيطرة منتميتين إلى الجماعة القومية نفسها، وهكذا فإن (الصراع الطبقي) يدور في قلب الجماعة القومية ذاتها. إن (الصلة القومية) تؤثر بقوة في (الصراع الطبقي). ومن حيث المبدأ، إذا جرى هذا الصراع داخل ذات الجماعة القومية؛ فعندئذ تُخفّف هذه الصلات من الصراع، فشعورها قوميًا بأنها مرتبطة بطبقة مسيطرة من قوميتها ذاتها يختلف الأمر عن شعورها بأنها مُهددة من قبل جماعة قومية أخرى؛ فالطبقة المحكومة تشعر بنفسها، بسبب من الرابطة القومية ذاتها، أنها قريبة من الطبقة المسيطرة، وتتوحد معها ببعض من المصلحة المشتركة. وإن هذا يخفّف حتمًا من صراعها ضد الطبقة المسيطرة. ويقدّم التاريخ العديد من الأمثلة من هذا النوع، ومن جانب آخر، إذا كانت الطبقة المحكومة مختلفة قوميًا عن الطبقة المسيطرة؛ فإن مقاومتها عندئذ، من حيث المبدأ، لهذه الطبقة ستكون أكثر عنفًا”(15).

وهل الدولة تستقطب قومية بكليتها؟ “تحت تأثير العديد من العوامل، بدءًا من العوامل الاقتصادية، والتاريخية (بمعنى جماعية الحياة القومية)، يبدو المجتمع الدولي الحديث مقسمًا إلى جماعات قومية صلبة ومتفرقة بوضوح (قوميات)، ويوجد بين أعضاء القومية ذاتها صلة قوية من التضامن القومي.

هذا الواقع هو عائق للصراع الطبقي الذي يجري في محيط هذه القومية؛ لأن أعضاءها في العادة مُقسمّون إلى طبقات متعارضة، وأن الصلة القومية هي على درجة من القوة، من جهة، وهي من جهة أخرى حصيلة بعض الشروط الاجتماعية الموضوعية. أي أن الجماعة الاقتصادية تتطابق مع الجماعة القومية، والإنتاج حصل في نطاقات قومية، وبالنتيجة، فإن الطبقات ذاتها تتكون من كوادر قومية، وإن النتيجة أيضًا هي خلق ما يُسمى الدول (القومية) أي أن الدولة الحديثة -بورجوازية أو اشتراكية- هي دولة من حيث المبدأ تستقطب قومية بكليتها فقط. وهذا الالتزام بإنشاء دولة قومية ظهر كمبدأ أساس، وتم التمسك به بإخلاص قليلًا، أو كثيرًا”(16).

أيهما أهم: الصراع الطبقي أم وحدة المجتمع؟

“إن الصراعات والنزاعات الاجتماعية، وبخاصة هذا النزاع الجوهري الذي هو الصراع بين الطبقات أو صراع الطبقات، تُهدّد وجود المجتمع وتخلق خطر التفكك، وانقسام المجتمع، هذا المجتمع الذي هو ضروري لوجود الإنسان. وإذن، وعلى الرغم من هذا النزاع، وهذا الصراع يتوجب الحفاظ على المجتمع ودعم تماسكه”(17).

هكذا وصل الفقيه “راد ومير لوكيل” إلى التضحية (بالصراع الطبقي) الذي هو (محرك التطور في المفهوم الماركسي) لأنه يُهدد وحدة المجتمع، تلك الوحدة الضرورية لوجود الإنسان، وبالتالي لتطوره قبل أي شيء آخر. فوحدة المجتمع تتضمن صراعًا اجتماعيًا متعدّد الأطراف.

المجتمع الموحد (الحقيقي) هو أساس الدولة، وبمجرد وجود هذا الأساس؛ تكون الدولة شرعية من حيث وجودها كدولة، لكن هذا لا يعني أنه بمجرد ذلك تكتسب مؤسساتها، وقوانينها، وأنظمتها، وممارساتها، مشروعيةً أكيدة؛ ذلك أن لكل مؤسسة، وقانون، وتصرف مصدرًا للمشروعية الخاص به الذي يقوم على أساسه، وإنما يعني أن تحقيق مثل هذه المشروعية أصبح ممكنًا، أما في حال عدم شرعيتها كدولة؛ فإن هذه الإمكانية تكون غير موجودة أصلًا.

يقول د. عصمت سيف الدولة: “يتطور المجتمع عن طريق المعرفة المشتركة، والرأي المشترك، والعمل المشترك، وإن ذلك قانون تطوره الحتمي، هذا الاشتراك الحتمي بين أفراد متعددين في مجتمع واحد فرض تنظيم نشاط الأفراد، علمًا وفكرًا وعملًا، وإدارة جهودهم على وجه تتكامل به تلك الجهود، فتصبح جهدًا واحدًا في مواجهة الظروف الواحدة. وكان لا بد لهذا التنظيم من جهاز يتولى إدارته، فابتكر الإنسان حلًا لتلك المشكلة ما أسميناه -أخيرًا- “الدولة”، أي جهاز إدارة المصالح المشتركة بين الناس في مجتمعٍ ما”(18).

هوامش، ومراجع:

(1) د. ثروت بدوي، النظم السياسية، صفحة (26).

(2) و(3) و(4) و(5) المصدر السابق صفحة (30) وما بعد.

(6) راد ومير لوكيل -الدولة والحق- مصدر سابق صفحة (27).

(7) المصدر السابق صفحة (149).

(8) و(9) المصدر السابق صفحة (42).

(10) و(11) و(12) و(13) و(14) المصدر السابق صفحة (135).

(15) و(16) المصدر السابق صفحة (133).

(17) المصدر السابق صفحة (93).

(18) د. عصمت سيف الدولة، نظرية الثورة العربية، الكتاب الثاني صفحة (56).


حبيب عيسى


المصدر
جيرون