عبد الله ملكًا



في الصرح الأكاديمي الجديد، وفي مدرّجه الكبير، غدًا الساعة الخامسة بعد الظهر، يسرّ اللجنة العليا للتأسيس، أن تستضيفكم لحضور حفل تطويبكم حرًّا!

مع فائق التقدير والشكر المسبّق.

وجد عبد الله المظروف الذي يحمل هذه الدعوة الغريبة مدسوسًا أسفل حافّة باب البيت. تأمّل الخط الجميل المزركش المكتوب بالنهج الديواني العربي العريق.

ما هذا الكلام؟ ما هذه الدعوة؟ ما هذا المظروف؟

قلّب “كرت الدعوة” ليتأكد من هي الجهة الداعية: (اللجنة العليا للبناء الوطني). وترك رأسه يقلّب الأفكار والخواطر. هو لم يصدق، هو لم يستطع أن يصدّق، ليس بحقيقة وجود اللجنة، أو بحقيقة وجود الصرح الأكاديمي، بل -أيضًا- بحقيقة الحلم أن يصير حرًا. منذ غادر سن المراهقة الأولى لم يعد يصدّق. على العكس من ذلك، بات في القسم الثاني والثالث من عمره يشك بهذه الكلمة، بقدر ما يحقد على الملوك والأمراء والقادة، بخاصة بعد حادثة قطع رأسه، والجهد الكبير الذي قام به حتى وجده، ثم أعاده إلى مكانه.

–  حرّ؟ هكذا ببساطة، وتطويب أيضًا! أكيد ثمة أحد ما من أصدقائي يلعب! أو ربما أحد ما يصنع بي مقلبًا من مقالب الكاميرا الخفية.

وشرد عبد الله مدّة من الزمن، انتبه معها أن ثمة نقطة من وهم في داخل خياله، شرعت تتسع! ثم تتسع! وقف أمامها وقال لها:

– ماذا تفعلين هنا؟ هل جن عبد الله برأيك إلى الحدّ الذي يمكن أن يصدّق؟؟

لكن النقطة لم تلتفت إليه، بل اتّسعت ثم كبرت أكثر من ذي قبل.

– أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم! ما هذا؟ ماذا تفعلين؟

النقطة لم تستمع إلى عوذلته ولا أسئلته، اتّسعت حتى كادت تتحول إلى بحيرة صغيرة. عندئذٍ وقف عبد الله على الشاطئ، وصرخ بأعلى صوته:

ألا تعلمين أنني أكره الملوك والأباطرة والحكام أكثر مما أكره الشياطين؟

لكن البحيرة الصغيرة اتّسعت أكثر، وشاهد المويجات الهادئة ترهج، وحين باتت على مقربة من قدميه، لم يعد يستطيع أن يتحمّل، فقفز إلى الماء وشرع يسبح، ثم يغطس، ثم يعوم.. ثم بعد حين، وقف منتصف اللجة وصرخ: حسنًا أنا حقيقة لم أصدق، ويستحيل أن أصدّق، لكني مع هذا غدًا سأذهب إلى الصرح المذكور، سأزوره وأنظر ماذا عسى يمكن أن يكون.

عاد إلى “كرت” الدعوة يقلّبه من جديد، الدعوة حددت اسم الشارع الذي تنهض فيه الأكاديمية، هو لا يذكر تمامًا إن كان هناك أكاديمية، يتذكّر فقط “المسجد الكبير” الذي ينهض هناك منذ دهور. المسجد الذي طالما مر به في تقلبات الأيام، ووقف أمامه مع تبدلات الظروف والأحوال.

في اليوم التالي نهض نشطًا، لبس الطقم الكحلي الذي يحبه، وقبيل الخامسة بقليل كان يتمشّى في الشارع الرئيس! منذ زمان لم يمر بهذا المكان! سأل عابرًا لا على التعيين:

– لو سمحتم يا أخ! أين هي الأكاديمية الحديثة؟

أشار الغريب إلى جهة ما، فقال عبد الله في نفسه إذن هي موجودة! معقول؟ بعد أقل من عشر دقائق، كان عبد الله يقف قبالة صرح عظيم. نظر بعينيه، وفكّر بعقله، وجعل يتساءل: أليس هذا هو مكان “المسجد الكبير”؟ نعم، نعم، أتذكر أنه كان هنا تمامًا.. المكان نفسه والشارع نفسه، البناء فقط مختلف، ثمة تغييرات في الهيئة والشكل وعدد الطوابق، ماذا جرى؟ وقف أمام البواب وسأله: أليس هذا الصرح هو المسجد الكبير؟ نظر الحارس إلى عبد الله ببعض استغراب، وقال:

– هذا كان من زمان، الآن هو صرح علمي يلتقي في جنباته النخب المميزون المبدعون والمفكرون والأدباء والفلاسفة والعلماء، في مناسبات خاصة أو عند مناقشة حدث خطير!

– لكنني أذكر أنه كان في مكانه مسجدًا!

–  صحيح هو نفسه كان مسجدًا فيما مضى، وقبل ذلك كان كنيسة، وقبل ذلك كان كنيسًا، وقبل ذلك كان معبدًا وثنيَا. الآن هو صرح أكاديمي لا غير!! هزّ عبد الله رأسه، وهو يتقدم ليدخل ببن نوم ويقظة وتصديق وتكذيب.

لحظة دخوله من الباب، سمع عريف الحفل يقول:

أيها السادة! ها هو عبد الله قد وصل، وبوصوله يكتمل الحضور. وسمعه يتابع:

أهلاً بكم، أيها السادة، في هذه المناسبة التاريخية! مناسبة حفل تكريم الرؤوس التي كانت مقطوعة عن أجسادها، وتكريم أصحابها بالتيجان الفخرية للحرية!

جلس بسرعة كيفما اتّفق، وجعل يحدّق في كل شيء، لفت انتباهه أمران: كومتان كبيرتان من التيجان الملكية من الذهب الخالص، وكثافة الحضور الذين ملؤوا مقاعد المدرج الكبير، رأى حكماء وعلماء ومفكرين وعباقرة وفلاسفة وأدباء ومبدعين، ورأى كثيرًا من الناس العاديين… رآهم حاضرين مجتمعين ومثله مُنصتين! وعاد فتابع السماع:

كل من قُطع رأسه من قبل حاكم أو ظالم أو سفاح، كل من قطع رأسه في حرب أو صراع من أجل العدالة أو الكرامة أو العيش الشريف، كل من قُطع رأسه من أجل علم أو فهم أو وعي أو فكر أو رأي حر، كل من قطع رأسه من أجل الحياة؛ سنكرمه باسم الحياة بتاج الحرية. أنتم ملوك الملوك، ولكم تنحني الهامات.

هذه التيجان لكم، هي تليق بكم، بعد لحظات ستضعونها على رؤوسكم! سترفعون هاماتكم وتفخرون أنكم أحرار. حقكم أن تعوضوا عما أصابكم من قهر وعذاب.

أيها الأحرار، رؤوسكم ملك لكم! أنتم أصحابها إلى أبد الآبدين!

بعد حين نهض عبد الله مع الناهضين، مشى مع الماشين، تقدم مع المتقدمين، ثم وضع على رأسه التاج مثل كل الواضعين.

وأحسّ عبد الله أن للحياة طعمًا مختلفًا، طعمًا آخر لم يذقه من قبل، طعمًا رائعًا، طالما كان بعيدًا عنه. وأحس عبد الله أن الحياة حقًا هي نعمة وتستحق أن تعاش، كما شعر بهول أن تشوّه أو تسرق أو تهان، وقال عبد الله: ألا ما أبشع أن تهان الحياة من قبل أعداء الحياة.

وحين خرج من باب المدرج الكبير، ثم الصرح الأكبر، كان كأنه قد ولد من جديد، بل هو حقًا ولد من جديد:

شرع عبد الله يرى العالم والمدينة والشوارع، يرى كل شيء بعينين رائعتين. لكنه لم يكن متأكّدًا، بما يكفي، أهو في عالم افتراضي أم في عالم حقيقي!!!

*اللوحة للفنان التشكيلي السوري دلدار فيلمز


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون