التنوير بين الثقافة والسياسة



هل يمكن فصل المشروع الثقافي، نهضويًا أو تنويريًا، عن المشروع السياسي؟ أو هل يمكن لأي مشروع سياسي ذي معنى أن يتم في غياب مشروع ثقافي؟

في أذهان بعض من يطرح التساؤلات حول قدرة المثقفين العرب على، أو عجزهم عن، القيام بدورهم التاريخي في الحراكات الثورية التي أطلق عليها اسم “الربيع العربي”، نسخة طبق الأصل عن الصورة الآلية التي قدمتها الكتب المدرسية العربية، حول علاقة سببية مباشرة بين مثقفي التنوير الفرنسيين خصوصًا -والأوربيين عمومًا- والثورة الفرنسية عام 1789، وصارت، بعد رسوخها في الذاكرة، مجرد شعارات آلية فارغة من أي مضمون حقيقي: “الفكر ينتج الثورة”، أو “لا ثورة بلا فكر”. لكن التاريخ -كما نعلم- لا يعيد نفسه، مثلما لا تتكرر أحداثه، بعد وقوعها في أرجاء أخرى من العالم. فمن الأوْلى إذن أن تُقرَأ هذه الأحداث، كما ينبغي أن تقرأها كل دراسة جادة، ضمن ظروفها وشروطها الزمانية والمكانية، وصولًا إلى ما يمكن استنتاجه منها من عناصر أو قوانين اجتماعية أو سياسية يمكن الاستفادة منها، مع الأخذ بالحسبان نسبية أي قانون، يمكن الوصول إليه في العلوم الاجتماعية والإنسانية عامة، مهما كانت درجة الدقة في صوغه أو في التعبير عنه.

والواقع أنه ليس من الممكن مقاربة مسألة دور المثقفين في العالم العربي، في أي حراك ثوري حديث أو معاصر، عبر مماهاتها مع دور المثقفين في الثورة الفرنسية أو سواها، من الثورات الأخرى في العالم. ولم تكن المقاربة السريعة، التي سعى إليها المقال الأخير “ويحدثونك عن التنوير”، تود أن تشير إلى أكثر من محاولتيْن جذريتيْن في تاريخنا الحديث، تطلعتا إلى تحريك المياه الآسنة، منذ أربعة قرون مضت على المحاولة الأولى، وخمسة على الثانية، وكيف أنهما، كلاهما، وُئدتا، على اختلاف ظروف كل منهما: الأولى مع انهيار المشروع السياسي الذي ولدت معه وضمنه، والأخرى بسبب غياب المشروع السياسي عن الثانية أساسًا، وتقاعس أو جبن السياسيين الوطنيين عن احتضانها. ذلك أنهما كانتا، كلاهما أيضًا، جذريتيْن في مطامحهما، أي تستهدفان قطيعة معرفية، في القراءة وفي التأويل وفي البناء عليهما.

لا يعني ذلك -كما يمكن أن يظن البعض- أن على المثقفين أن ينتظروا مشروعًا سياسيًا يحتضن مبادراتهم بقدر ما يعني -بالأحرى- أن تنطوي مشروعاتهم الفكرية ذاتها على الحض على صوغ مشروع سياسي. من الواضح، خلال القرنين الأخيرين، أن المفكرين العرب، في كل مكان من العالم العربي، لم يتوقفوا عن مثل هذه المحاولات في مختلف الميادين، لا بل دفعوا ثمنًا فادحًا بسببها في حياتهم أو في معيشتهم أو في حرمانهم من حريتهم، عبر السجن أو النفي. لكن ما هو أكثر وضوحًا كذلك، أن هذه المحاولات اصطدمت أيضًا، وعلى الدوام، بجهل السياسيين أو بجُبنهم أو بتقاعسهم، فلم تحظ، كما كان ينبغي لها، باعتمادها في مجال السياسة العملية، ولا بالدفاع عنها وعن أصحابها أمام دعاة السلفية والجمود، ولا في إتاحة الفرصة لها عبر فضاء حرية، يتيح لها التراكم والتفاعل والإخصاب. ولهذا بقي معظمها حبيس دائرة النخب العربية التي أنتجتها أو التي تفاعلت معها، لا تتجاوزها إلى مختلف الفضاءات الاجتماعية، كي تصير جزءًا من المكتسبات العامة التي تصوغ، بفعل ثراء عناصرها، الذهنية العامة، أو الوعي العام، بما يجعلها، عبر استمراريتها، حاضرة على الدوام.

خلال ما لا يقل عن خمسين عامًا على الأقل، لم تكن هذه الممارسة على صعيد السلطة السياسية التنفيذية فحسب، بل على صعيد مختلف الأحزاب والجماعات السياسية التي كان يفترض بها، هي قبل غيرها، وقبل استيلاء العسكر على الحكم، أي قبل ما يقارب سبعين عامًا، أن تسهم في نشر وفي استمرارية وفي تحويل هذا الفكر النقدي -الذي عرفه العالم العربي على امتداد أكثر من قرن ونصف- إلى قوى مؤثرة وفاعلة. صحيح أنها قُمِعَت أو تلاشت تحت وطأة هيمنة الاستبداد في تنويعاته المختلفة، عسكرية أو ملكية مطلقة أو مدنية، فلم يكن بوسع أيٍّ منها بالتالي أن يؤدي أدنى دور في الفضاء العام، بله العمل على ترويج مقولات مختلف ضروب الفكر النقدي. لكن الأنكى من ذلك، أن رقابة السلطات الاستبدادية تراخت إزاء كل ما يفيد هيمنتها، ولا سيما نتاج مختلف أيديولوجيات التجهيل والجمود الظلامية التي نمت وترعرعت، خلال ما لا يقل عن خمسين عامًا، في أرجاء العالم العربي، مستفيدة من كل ما تتيحه لها الوسائل التقنية الحديثة، ولا سيما الفضائيات المجانية التي انتشرت كالنار في الهشيم في الفضاء العربي خصوصًا، بحيث بدا هذا الأخير وكأنه يرتدُّ على عقبيه قرونًا، لا عقودًا من السنوات. لكن ما فاقم من خبث الاستبداد هذا، كان تواطؤ ما بات يُعرَف بمثقفي السلطان الذين ارتجل البعض منهم أنفسهم مفكرين وباحثين، أو البعض الآخر، من الذين أغرتهم منافع الثروة، فوصل بهم الأمر إلى أن يجعلوا من أكثر التيارات ظلامية وجمودًا ونكوصًا، تيارات تنويرية أو ثورية، وقاموا بإدراجها بكل صفاقة ضمن حركة التنوير الحديثة!

هذا ما أدى إليه تضافر الاستبداد والفكر السلفي والمفكرون الانتهازيون، معًا. وكان أن تجلى فضلًا عن ذلك في قيام هؤلاء الأخيرين بدورهم على نحو أكمل، عند انفجار الشارع العربي، قبل سبع سنوات. لم يكن مفاجئًا، والحال هذه، أن تسارع هذه القوى الظلامية إلى الاستحواذ على ثورة لم تكن أصلًا داعية أو محركًا لها، وإلى العمل على تفريغها، بفعل ذهنيتها وطبيعة أيديولوجيتها، من كل المعاني التي انطلقت بفعلها ومن أجلها، وأخيرًا، إلى تسليمها ثمرة إلى من يقوم بالقضاء عليها وعلى المعاني التي حملتها.

لا يمكن -كما يبدو في ضوء ما سبق- فصلُ الثقافي عن السياسي، شريطة أن يفهم السياسي بالمعنى الإغريقي للكلمة، أي علم تنظيم المدينة، أو، بلغة عصرنا الحاضر، الدولة. إذ لا يمكن للثقافي، مشروعًا أو نتاجًا، أو ممارسة، أن ينمو ويؤدي وظيفته إلا في ظل دولة تتيح له كل الحرية الطبيعية التي تتيح له ذلك بلا قيد أو شرط. كما لا يمكن للسياسي بالمعنى المذكور أن يتخلى عن الثقافي؛ لأنه لا بد من أن يكون في أساس قوامه. لا يمكن، أيضًا، لغياب المشروع السياسي إلا أن يشي بضرب من طبيعة استبدادية ما، يُعرّيها غياب أي فكر يمارَس في حرية تامة، بلا حسيب ولا رقيب. لا شك أن بوسع المفكرين خصوصًا، والمثقفين عمومًا، أن يعملوا في السر، خارج حدود رقابة النظم الاستبدادية. ولقد عرف التاريخ أمثلة فاعلة وفعالة كثيرة على ذلك. وهذا ما بات اليوم ممكنًا بفضل كسر جدران الخوف كلها، رغم عنف وهول الثورة المضادة، بعد أن خرج الناس ينادون بالكرامة قبل الخبز.

تبقى المسألة الأساس: طبيعة القطيعة المعرفية الحقيقية التي لم يجرؤ أحدٌ، بعد، على القيام بها.


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون