الموت تحت التعذيب!!



نموت تحت القصف، تحت الركام، على الحواجز المسلحة، برصاص قناص، بانفجار عبوة أو سيارة مفخخة، نموت من القهر، من الحصار، عبر الحدود، في البر الموحش، في البحر الهائج والمنافي… لكننا “نموت -أيضًا- تحت التعذيب”! ويا لها من عبارة وحشية، تذكرنا بالعصور البربرية، وبأولئك الذين قضوا –عبر التاريخ- من أجل قضية عظيمة، مثل سقراط والمسيح والحلاج ومهيار الدمشقي… كما تذكرنا بـ “فرج الله الحلو” الذي لم يكن أول شهيد يموت تحت التعذيب، في زنازين عبد الحميد السراج، ولن يكون الأخير في تاريخ سورية الحديث.

تعذيب حتى الموت، بالمنشار والمثقب والسلق والحرق وقطع الأعضاء والاغتصاب… ونقول صباح الخير لحمزة الخطيب ورفاقه، وغياث مطر ورفاقه، وعمر عزيز ومروان الحصباني، وابن المخيم فادي الخطيب ورفاقه، ونقول صباح الورد لفاطمة وسوسن وليلى وهند، والقائمة تطول وتطاول السماء. وكل ما يرجوه السوريون -إذا ماتوا تحت التعذيب- ألا تُسلم جثتهم مقابل ورقة، يتعهد فيها الأهل أن بناتهم وأبناءهم ماتوا بالسكتة القلبية!

كل ما يرجوه السوري –اليوم- أن يصدقوا موته، ألا يلوذوا بالصمت، ويدفنوه تحت التراب حيًا، لأنه طالب بالحرية والكرامة، وقرر أن يستعيد وطنه.. فقد مات، ولسان حاله يقول: لا تسلموا جثتي وهويتي الشخصية مقابل ورقة، تؤكد أنني مت صدفة! أو أن الإرهابين هم من قتلوني.

منذ نصف قرن، نحن نعلم وهم يعلمون والعالم يعلم أن القاتل واحد، وأن زنازينه كانت -دائمًا- مليئة بالمعتقلين، وأن المقتول واحد، وأنه لا يموت مرتين، عندما يموت من أجل الحرية، وجثته ليست ملكًا للعبيد، بل للطيور الجارحة.. فيا أهله المكلومين، اتركوه في العراء وحيدًا على قمة صخرة تحت سماء زرقاء، كما يفعل سكان جبال “التبت”، أقرب أهل الأرض إلى الله! دعوا الطيور السوداء تصلّي عليه، وتنقر ما تبقى من عينيه ولحمه المقدد، ولتذكروه بالخير فقط، اذكروا أنه كان شوكة في حلق الظلم، وأنه مات بكامل أناقته وكبريائه السوري، ولا تنسوا أن التعذيب حتى الموت جزء من موتنا، لكنه الجزء الأكثر بشاعة ووحشية وغبنًا. هو خلاصة الكراهية، الممزوجة بحقد الجلاد، وهو خليط من الخِسّة البشرية، ونذالة المستبد وأدواته وأتباعه، وهو الأكثر إيلامًا في هذه المأساة الصارخة المسكوت عنها، وهذا الصمت المريب لضمير البشرية والمجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية والإنسانية، أمام هذه الجرائم الموصوفة والمحرمة دوليًا.

لقد كشف اللحم السوري هشاشة العالم، وخبث الحضارة، والقيم الأخلاقية العليا التي كافحت البشرية من أجلها قرونًا طويلة. كشف الحضيض الذي وصل إليه طغاة الأرض، وسماسرة السياسة وحقوق الإنسان.

لكن الدم سينتصر على السيف، ولن يذهب هدرًا. هذا الدم السوري لن يكون رخيصًا، وسوف يوقظ وجدان هذا الكون، ولو بعد حين. فهذه الأضاحي ليست القربان الأول، ولن تكون الأخير، الذي يقدمه السوريون على مذبح الحضارة.

ستهب رياح الحرية ويستيقظ ضمير البشرية.


غسان الجباعي


المصدر
جيرون