“موضة” أهداف التنمية المستدامة



استخدم السيد أديب نعمة مستشار (الإسكوا)، تعبيرَ (موضة أهداف التنمية المستدامة)، في حديثه أمام اجتماع للخبراء، حول “إدماج المنظور الأسري في أهداف التنمية المستدامة في الدول العربية: التطلعات والتحديات”، الذي نظمه معهد الدوحة الدولي للأسرة، بالتعاون مع المكتب الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان، وعقد في الدوحة أواخر الشهر الفائت، وشارك فيه عدد من الخبراء في قضايا السكان والتنمية، من عدد من البلدان العربية والأجنبية. وقد عنى بـ “الموضة” شيوعَ عددٍ لا حصر له من الاجتماعات والمؤتمرات والندوات التي تحاول ربط كل شيء، في كل مكان، بأهداف التنمية المستدامة.

الواقع أن أهداف التنمية المستدامة 2015 – 2030 التي تحمل عنوان (تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030) التي وافقت عليها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والبالغ عددها 193 دولة، وتتضمن 17 هدفًا و169 غاية، هي أهداف سامية وطموحة. ويكفي للدلالة على ذلك قراءة نصوص بعض منها. فالهدف الأول ينص على “القضاء على الفقر بجميع أشكاله، في كل مكان”، والثاني: “القضاء على الجوع، وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة، وتعزيز الزراعة المستدامة”، والثالث: “ضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية، في جميع الأعمار”، والرابع: “ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع، وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع”، والخامس: “تحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين كل النساء والفتيات”، والثامن: “تعزيز النمو الاقتصادي المطرد والشامل للجميع والمستدام، والعمالة الكاملة والمنتجة، وتوفير العمل اللائق للجميع”، والعاشر: “الحد من انعدام المساواة داخل البلدان وفيما بينها”… وتتحدث الأهداف الأخرى عن تحفيز التصنيع وتشجيع الابتكار، وعن أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة، وأمان المدن، والتصدي لتغير المناخ وحماية النظم الإيكولوجية البرية، والحفاظ على الموارد البحرية، وحتى عن السلام والعدل.

كل هذا جميل، لكن المشكلة تكمن في التطبيق. ومن الذي يطبق؟ الحكومات التي وقعت على إعلان الأهداف! ولن أتوقف عند ما يحدث في معظم أنحاء العالم النامي، الذي يشكل سكانه الأكثرية الساحقة من سكان العالم، بل سأكتفي بالتوقف عند ما يجري في عالمنا العربي، بل ربما يكفي التوقف عند ما يجري في سورية وحدها.

كيف يمكن الحديث عن القضاء على الفقر والجوع والتمتع بالصحة والرفاهية والتعليم… في بلد يمارس فيه القتل يوميًا بمختلف الوسائل، بما فيها القتل تحت التعذيب في أقبية أجهزة الأمن، وتدمر البيوت على رؤوس أصحابها، ويشرد نصف السكان، ويحرم الأطفال من التعليم. كيف يمكن الحديث عن العمل اللائق، في مخيمات اللجوء التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، ويمنع ساكنوها من العمل، ويحاربون في لقمة عيشهم. وكيف يمكن الحديث عن المساواة بين الجنسين، والنساء والفتيات يُغتصبن ويتاجَر بهن كما يتاجر بالبهائم؟ وكيف تطالب الأسرة بالقيام بأدوارها المختلفة في التربية والرعاية وإدارة الشؤون الاقتصادية، وأفرادُها مشردون كلٌ في ديرة؟ وكيف وكيف وكيف؟؟؟

المشكلة الأكبر أن وثائق الأمم المتحدة، التي تتحدث عن الأهداف المذكورة، لا تشير، من قريب أو بعيد، إلى العوامل الحقيقية التي تعوق تحقيق تلك الأهداف. لا تشير إلى أنظمة الاستبداد والفساد التي تودي إلى الفقر والجوع وانعدام الأمن، ناهيك عن العدل والمساواة والسلام. وكيف تشير إلى ذلك، والأنظمة نفسها هي من وقعت على إعلان الأهداف؟ لكن الأنكى أن معظم المستشارين والخبراء والباحثين الذين يتناولون الموضوع، لا يشيرون أيضًا إلى تلك العوامل. هم، في الغالب الأعم، يوصّفون الأوضاع في بلدانهم، من دون التطرق إلى الأسباب الجوهرية التي أدت إلى تلك الأوضاع.

ولا يقتصر الأمر على الأنظمة السياسية، في هذا البلد أو ذاك، بل تكمن المشكلة في النظام العالمي نفسه. فالهم الأكبر لنظام العولمة هو ضمان استهلاك ما ينتجه، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة السياسية في البلدان المختلفة. فإذا كان الاستبداد يضمن مصالح الشركات الكبرى متعدية الجنسيات، وإذا كان الفساد يساعد على زيادة أرباح تلك الشركات؛ فمرحبًا بالاستبداد والفساد.

أما الجوانب الإيجابية لنظام العولمة، فلم يكن لها في بلداننا سوى آثار محدودة، حيث أمكنت محاصرة الحداثة والعصرنة التي ترافق العولمة من المؤسستين الدينية والسياسية. إذ نجح الإسلام السياسي في استخدام مبدأ الطاعة والانتماء الجمعي، في تفكيك الهويات التقليدية، وصار الانتماء إلى الجماعة المتطرفة أكثر أهمية وتأثيرًا من الانتماء إلى الأسرة أو القبيلة أو غيرها. وفي الوقت نفسه، يشدد الخطاب العربي السائد على المنطلقات الثقافية التقليدية والاجتماعية للتأكيد على مفاهيم النظام والاستقرار، وتستغل فكرةُ استقرار الأسرة وتماسكها وسيادة النظام فيها، اعتمادًا على مبدأ الطاعة، للتأكيد على مبدأ طاعة النظام السياسي، لضمان الاستقرار والأمن في البلاد. كما تستغل الأنظمة المستبدة وسائل الحداثة والعصرنة لتشويه وعي المواطنين، وإشغالهم عن المطالبة بالحرية والعدالة وحقوق المواطنة، وغيرها مما يعبّر عنه في وثائق مثل أهداف التنمية المستدامة.

ومن ناحية أخرى، تخلق الأنظمة الاستبدادية التي تقمع الحريات، وتتحكم بمفاصل اتخاذ القرار، طبقةً من الطفيليين والمتسلقين والمنتفعين الذين يستأثرون بأهم مصادر الثروة، ويجنون المليارات على حساب شعوب البلدان التي ابتليت بتلك الأنظمة؛ فيزداد بهذا الاستقطابُ بين الفقر والغنى، وتتفاقم البطالة والبطالة المقنعة، وينتشر الجوع والمرض، ويتدهور التعليم… إلى آخر هدف من أهداف التنمية المستدامة.

لا الأنظمة المستبدة، ولا النظام العالمي معني بحرية الناس. والحرية هذه شرط أساس لتحقيق أي من أهداف التنمية المستدامة. فالعلاقة بين الفقر والجوع واللامساواة من جهة، وحرية الناس ومدى مشاركتهم في اتخاذ القرار في مجتمعٍ ما، من جهة أخرى، وثيقةٌ جدًا، وإن لم يبد ذلك على السطح. إن احتكار الثروة والسلطة، من قبل فئة قليلة من أفراد المجتمع، يؤدي إلى الحد من قدرة أكثرية أفراد هذا المجتمع على تلبية احتياجاتهم، ومن إمكانية مشاركتهم في اتخاذ القرارات المهمة، سواء تلك المتعلقة بهم كأفراد أو المتعلقة بمجتمعاتهم.

الحرية حق أساسي من حقوق الإنسان، وهي وحدها التي تجعل الفرد في وضع يؤهله للمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية، سواء تلك المتعلقة بأسرته أو حيه أو قريته أو بلده كله. الحرية هي التي تمكن الجماعات المحرومة والمظلومة من التخلص من الظلم والقهر، تمكنها من التعبير عن مطالبها والسعي لنيل حقوقها. وحري بالأمم المتحدة أن تضع على رأس أولوياتها، وعلى رأس أهداف التنمية المستدامة، القضاءَ على الاستبداد والفساد وضمان المشاركة الحرة والفعالة في اتخاذ القرارت لجميع المواطنين، في جميع بلدان العالم.


خضر زكريا


المصدر
جيرون