يوم قضت الديمقراطية في سورية على نفسها
14 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
يؤرخ 30 آذار/مارس من عام 1949 للسوريين يومًا، قد يكون الأكثر سوداوية، في تاريخ سورية المعاصر، إذ حدث في ذلك اليوم أول انقلاب عسكري في سورية؛ لينهي المرحلة الديمقراطية الشابة التي لم تكن قد تخطت ثلاث سنوات من الحكم الوطني حينئذ بعد الاستقلال، ولكن هل كان هذا الانقلاب حدثًا مفاجئًا لا يحمل أي مؤشرات أو مقدمات، هل كانت سورية في ظل الحكم الوطني تعيش ديمقراطية صحية أطاحت بها عنجهية قائد الجيش؟ من الطبيعي أن الأمور لو لم تتعطل بالانقلاب العسكري؛ لتقدمت الديمقراطية في سورية إلى مستوى حداثي، غير أن هذا لا يمنع أن تجربة الحكم الوطني لطبقة معينة من السوريين، كانت بعمومها تقود إلى ما آلت إليه الأمور في آذار/ مارس 1949.
عند الاستقلال عام 1946 كانت الأكثرية النيابية من برلمان 1943 مشكلة من “الكتلة الوطنية” التي كانت العنوان الأبرز في مواجهة الاحتلال الفرنسي في سورية. كانت السياسة عمومًا -إبّان الاحتلال الفرنسي- مقسمة بين مجموعتين من الطبقة الأرستقراطية في سورية، وهي طبقة الملاك والتجار وبخاصة الأكاديميون منهم، مضافة إلى شيوخ العشائر والزعماء الشعبيين، المجموعة الأولى والتي عرفت بالمعتدلين حابت الاحتلال الفرنسي، وتوازت معه في مصالحها. نشأت المجموعة الثانية المعروفة بالكتلة الوطنية كإفراز سياسي للثورة السورية الكبرى عام 1925، وقد ناضل أعضاء الكتلة الوطنية نضالًا مشهودًا لهم تاريخيًا، في مواجهة الفرنسيين، وكان من رجالاتها الزعماء الوطنيين السياسيين الذين حملوا السلاح من أمثال شكري القوتلي وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي ودهام الهادي وسعدالله الجابري وهاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم وغيرهم، وكان هؤلاء يمثلون النخبة العلمية والتجارية والصناعية في سورية، وملاك الأراضي والإقطاعات، وإبّان جلاء الفرنسيين، كانت الحكومة والدولة بيدهم، ولكن ذلك لا يمنع من تفشي الفساد وسوء الإدارة والمحسوبيات في الدولة الفتية، إضافة إلى الرغبة في التمسك بالسلطة وحصرها في طبقة واحدة من السوريين، على اعتبار أن “المجتمع غير مجهز لإنتاج قيادات جديدة”.
هزت ثقةَ الشعب السوري، بالكتلة الوطنية في بداية الاستقلال، سلسلةٌ طويلة من فضائح الفساد والرشا، التي اتهم بها أشخاص مقربون من أعضائها. في شهر شباط/ فبراير من عام 1947، شرعت مجموعة كتلوية بتشكيل الحزب الوطني، انطلاقًا من أن الكتلة الوطنية كانت تنظيمًا يمتلك مشروعًا واحدًا، هو مواجهة الاستعمار الفرنسي، بينما يسعى الحزب الوطني لتبني برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي ينهض بالبلاد، وكان هدف الحزب الرئيس التمديد للزعيم الوطني شكري القوتلي لفترة رئاسية ثانية، ولضمان ذلك، حاول الحزب الوطني منع تعديل قانون الانتخابات، من نظام الدرجتين إلى نظام الدرجة الواحدة، لكنّ المعارضة البرلمانية القوية، مترافقة مع الضغط الشعبي الكبير عبر التظاهرات المنتشرة في مختلف المحافظات السورية، وقد ووجهت بالرصاص في مناطق مختلفة، أدت إلى إقرار القانون، ولم تخل انتخابات 1947 من التزوير الذي تحدثت عنه الجرائد الصادرة وأحزاب معارضة، وكانت التظاهرات أساسًا قد انطلقت نتيجة دخول لاعب جديد في الحياة السياسية السورية المتمثل بأبناء الطبقة الوسطى، وبخاصة من الطبقات المتعلمة من أبناء الأطراف، بعد أن كان الحزبان الأرستقراطيان (الوطني والشعب) -جناحا الكتلة الوطنية- قد سيطرا على الحياة السياسية، وبدا واضحًا أن تلك “النخبة الذهبية” جادة في إبعاد الطبقة الوسطى التي تمثلت بأحزاب قومية ويسارية ودينية ناشئة عن الحكم، ومرت الانتخابات، وتم التمديد لشكري القوتلي رئيسًا لولاية جديدة، وتناوبت على فترته الجديدة ضغوط هائلة خارجية، تمثلت بالدرجة الأولى في حرب التحرير، بعد إعلان تقسيم فلسطين، ثم إعلان قيام (إسرائيل) ونكبة 1948، وأخرى تعلقت باتفاقيات خارجية مثل اتفاقية مد خط التابلاين النفطي، والاتفاقية النقدية ذات الشروط الكولونيالية مع فرنسا، يضاف إلى ذلك الرغبة الشديدة في الاستئثار في السلطة الذي رسخ المحسوبية والزبائنية، لدى رجالات الحكم، ناهيك عن أن أعضاء الحزب الوطني كانوا رجال أعمال وتجارًا وأعضاء مجلس إدارة لكثير من الشركات الكبرى، حتى إن نعيم أنطاكي، وهو الذي شغل أكثر من منصب وزاري في حكومات الحزب الوطني، كان وكيل شركة (التابلاين) الأميركية في سورية، ثم جاءت نكبة 1948 ضربة قاصمة في وجه رئاسة القوتلي وحكومته.
مع توقيع اتفاقات الهدنة مع (إسرائيل)؛ انطلقت التظاهرات في المدن السورية الكبرى، وحصلت مواجهات دامية، بين القوات الحكومية والمتظاهرين الذي كان معظمهم من الطلبة في المرحلة الثانوية والجامعية، وكشفت لجنة تحقيق برلمانية برئاسة صبري العسلي التقصير الكبير من وزير الدفاع أحمد الشرباتي الذي وصل إلى مراحل تسمه بالخيانة، مثل عرقلة العديد من صفقات شراء السلاح، وتسريح العديد من الضباط وصف الضباط القدامى من الجيش، قبل تاريخ دخول الجيش السوري فلسطين، بخمسة عشر يومًا، وجاءت قضية “باخرة السلاح” لتظهر مدى الضرر الذي تحدثه المحسوبيات والعلاقات العصاباتية، حيث تم عقد صفقة سلاح في أثناء حرب التحرير مع تشيكوسلوفاكيا، لو أنها وصلت إلى الجيش السوري -على حد وصف الإسرائيليين- لساعدته في السيطرة على المستوطنات الإسرائيلية في الشمال الفلسطيني وفتح الطريقِ إلى الخليل، ولكن حين كان الجنود السوريون يهاجمون المستوطنات بكتائب، نصفها مسلح بسلاح قديم والنصف الآخر بالعصي والحجارة.
عندما انطلقت التظاهرات الطلابية والأهلية في نهايات 1948 وبدايات 1949 ضد الحكومة؛ تمت مواجهتها بالرصاص، ووقع العديد من القتلى، ووصفت الجرائد الموالية للحكومة المتظاهرين بـ “الناقمين والحاقدين”. وكان لهذه المعركة صداها في البرلمان السوري، بين نواب حزب الشعب ونواب الطبقة الوسطى الذين تمكنوا، بفضل القانون الانتخابي الجديد، من تثبيت أقدامهم في البرلمان، وعلى رأسهم أكرم الحوراني، وبين “الحزب الوطني”، ومع اشتداد التظاهرات؛ اتخذت الحكومة السورية القرار الانتحاري للبلاد، حيث تدخل الجيش في قمع التظاهرات، ورمت طائراته المنشورات الورقية التي تعلن الأحكام العرفية في البلاد، ونزل الجيش إلى شوارع حلب، وأعلن منع التجول، وأعلن حسني الزعيم نفسه حاكمًا على حلب، ونتيجة النقمة على الحكومة، والرغبة في مناصرة الجيش بعد حرب النكبة، لاقى الأخير ترحيبًا شعبيًا، سرعان ما شجع الزعيم لاحقًا على الانقلاب عسكري.
كانت الرغبة في التمسك في السلطة، واستئثار “الطبقة الذهبية” في الحكم (على وطنيتها) وتنميط ديمقراطية اصطفائية، ضربةً قاضية للديمقراطية في سورية من قبل صناعها، لأن حظر السلطة على طبقة دون سواها لا بد أن يتبعه ما له من متطلبات الزبونية والمحسوبية والحاجة إلى عناصر القوة التي تمثلت بالجيش؛ فجاءت العواقب كارثية على البلاد حتى يومنا هذا.
رعد أطلي
[sociallocker]
جيرون