أدبيّة السينما وسينمائية الأدب



على الرغم من أن السينما عبارة عن فنون ستة تفاعلت -كيميائيًا- في أتونها، وأنتجت فنًا سابعًا لا يشبهه أي من هذه الفنون، فإن الأدب كان حليفًا حميمًا لها، الأدب بكل أنواعه: الرواية والشعر والنص المسرحي والقصة القصيرة.

عندما كانت تظهر أو توجد أو تتجلى مدرسة أدبية، كان هذا التجلي وهذا الظهور والتطور يتوازى مع السينما، فالمدرسة الرمزية -على سبيل المثال لا الحصر- في الرواية والقصة وأنواع مختلفة من الأدب، تسود وتصبح سيدة مرحلة من مراحل تاريخ الأدب، وتكون السينما كذلك، فقد نشأت الرمزية أيضًا، وكذلك المدرسة الواقعية في السينما، مع سيادة الأدب الواقعي.

ربما كانت الرواية أكثر توازيًا والتصاقًا مع السينما، لقرب الشراكة في جوهر الحكاية التي تشترك فيها مع السينما، لكن السينما لم تكن بعيدة عن المدارس الفنية الأخرى في الشعر، كالسريالية مثالًا، ومنها الفن التشكيلي، والمدرسة السريالية في بدايات القرن المنصرم، فرأينا السينما في تجليات عظيمة للسريالية والتجريدية وغيرها.

تبادلت السينما مع الأدب لعبة البناء والشكل، وحيلة تطويع السرد الفني في السينما والأدب ربما سبقت، في أحيان كثيرة، لعبة البناء الحكائي الصوري الذي انعكس على الأدب.

لعبة الدلالة “السيميولوجيا” التي استفادت منها الرواية، أي من لعبة السينما وبنائها الحكائي، أثرت في بناء جديد للرواية، واستفاد كبار الروائيين من لغة السينما في كتابة رواياتهم، وظهر في المدارس النقدية للأدب مصطلح جديد اسمه “سينمائية الرواية”، وهذا لا يعني الرواية السينمائية، أي الرواية التي تصبح فيلمًا، فذلك حديث آخر.

ما بين الشعر والسينما أيضًا، ظهرت تبادلية في مفهوم الصورة الفنية، ومنها الصورة الذهنية. فكلما أصبح الشعر أكثر تعقيدًا لمفهوم الصورة؛ انتقلت “الصورة الشعرية” من تشكيلها المباشر إلى مفهوم “الصورة الذهنية”، والصورة خارج القصيدة، إلى الصورة ما وراء أو داخل القصيدة. كانت السينما تتوازى مع الشعر بمفهوم الانعتاق من الصورة التشكيلية، إلى الصورة الذهنية، حيث كان النقد في حينها تفكيكيًا، فأصبح النقد تركيبيًا، أي ملاحقة ما ينتج عن الصورة السينمائية، وليس ما يظهر من تشكيلية الصورة، مثال على ذلك في الصورة التشكيلية عند المخرج الروسي الكبير “تركوفسكي”.

أما التناول للرواية من قبل السينما، وجعلها فيلمًا، فهي عملية معقدة، وليس التعقيد في تناول الحكاية الروائية، وإنما في التناول الفني والبنائي للرواية، والقدرة على تفكيكها، لتصبح بناءً مختلفًا، في عالم البناء المعماري الخارجي للسينما.

عاند كثير من الروائيين الكبار، أمثال ماركيز وغيرهم، في تناول رواياتهم كأفلام! لم يخش ماركيز على حكايته السينمائية، بقدر خوفه على لعبة الشكل الروائي، المحكمة والمتميزة لديه، وبناء صوره الساحرة، وكيفية تعامل السينما معها، لكنه أخيرًا اقتنعَ ووافق، على روايته (قصة موت معلن) لتكون أول فيلم لأعماله الروائية الكثيرة، وسادت موجة من التناقض بين المتلقين للفيلم، وخصوصًا الذين يعرفون الرواية من قبل. وتم تناول مسرحيات عظيمة مكتوبة شعريًا، مثل (هاملت) لشكسبير، و(عربة اسمها الرغبة) للكاتب المسرحي الأميركي تينيسي وليامز، وقدمها السينمائي العظيم إليا كازان. لم تظهر احتجاجات فنية على ذلك، كون المسرح أقل أدبية من الرواية. لكن الشعر ذاته، تماهى في الصورة السينمائية التي لم تكن صورة شعرية، بقدر ما هي ملحمية في أتون الحكاية، التي تورطت فيها السينما.

ليست مهمة السينما تقديم العمل الأدبي، كسرد حكائي للرواية، وتقديمها صنفًا أدبيًا؛ فالفيلم السينمائي قراءة جديدة للعمل الروائي من زاويتين مختلفتين: زاوية بصرية “صوَرية”، وزاوية درامية، تختفي في روح شخصيات الرواية، في عملية تكاملية تشبه مهمة النقد، لكن بروح لا يلتقطها إلا السينمائي، إن كان كاتبًا للسيناريو، أو مخرجًا للفيلم. أصبحت السينمائية كجندر فني قائم بحاله، له شروط البنائية الخاصة به.

العلاقة بين السينما والأدب علاقة مرتبكة حينًا، وعلاقة نفعية حينًا آخر. كمفهوم الاقتباس والاستفادة من شهرة العمل الأدبي.

ما يهمني كيف تمت هذه العلاقة من الناحية الشكلانية، في تبادل البناء المتكامل للرواية والفيلم فنيًا، وبناء الشخصيات والأحداث، والإبداع في قص الحكاية، بطرائق جديدة مخترعة من الجانبين، لذلك تسارعت التحولات في تطور الرواية ومدارسها الجديدة من ماركيز وكونديرا مؤخرًا، إلى الأفلام الجديدة التي تهتم بالبناء الفني الجديد، في السينما الجديدة التي تطورت مع تطور هذه المدارس. وليس عبثًا إشراف ماركيز على أهم معهد في كتابة السيناريو في كوبا، قبل وفاته.


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون