الدمية ومهزلة الحل السياسي



الصفاقة والوقاحة، معنيان متقاربان في القاموس العربي لما يمكن أن يوصف به سلوك رأس الطغمة الحاكمة بدمشق، حين قال قبل أيام: من يقتل جيشه أو شعبه فهو خائن، ظانًا أنه، بمثل هذه الجملة القطعية، يستطيع أن يدفع عن نفسه سلسلة الجرائم الموصوفة التي ارتكبها منذ ما يقارب سبع سنوات، وما يزال يرتكبها يوميًا، مثلما ارتكبها بصورة منتظمة منذ استيلائه على السلطة عنوة وكذبًا ونفاقًا، بحق سورية شعبًا وأرضًا ومدنًا ووطنًا وتاريخًا وتراثًا. تلك على كل حال كانت طريقته في تزوير الحقائق، وأسلوبه في الكذب والإنكار، منذ أول تظاهرة خرج الشباب السوري فيها يطالبون بالكرامة وبالحرية، قبل المناداة بإسقاطه وإسقاط نظامه الأعنف والأخبث والأشد إجرامًا من كل الأنظمة التي عرفتها سورية على امتداد تاريخها الألفي. من الواضح أنه كان يدرك فداحة ما يعمله، لا لأنه يتمتع بدعم لا حدود له من قبل حليفيْه إيران وروسيا فحسب، بل أيضًا، لأنه ربما كان يعرف أنه مُجاز لفعل ذلك بلا حساب، أيًا كانت مسرحيات الإدانة والاستنكار التي صدرت من الدول التي قدمت نفسها، بوصفها أصدقاء شعب سورية؛ وكان الأولى أن تستمر في ممارسة نفاقها العريق الذي بات صنوًا لسياساتها ولمزاعمها في الدفاع تارة عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وتارة في الدفاع عن حقوق الإنسان.

لكنَّ هدف الرسالة التي أراد بثها لم يقتصر، في الحقيقة، على مجرد دفع التهمة عن نفسه فحسب، بل كان يتجاوز ذلك إلى محاولة إثبات استعادته أهليته السياسية كاملة، بارتجاله من موقع رئيس طبيعي، يتمتع بكامل الصلاحيات في اتخاذ قراراته بصورة مستقلة، واضعًا لهذه الدولة أو تلك شروطَه للتعامل معها، أو معبرًا عن تفضيله لمؤتمر سوتشي على مؤتمر جنيف، أو مانحًا الأمم المتحدة موافقته على قيامها بمراقبة انتخابات يريد أن يشرف عليها، شريطة احترام “السيادة” السورية التي سمح لكل شذاذ الأرض بانتهاكها، ما داموا يحققون هدفه في الإبقاء على كرسيه، ناسيًا أنه لم يعد يستطيع التحرك قيد أنملة -سياسيًّا أو عسكريّا- إلا وفق إرادة من يسميهم حلفاءه، وبعد إجازة منهم، في الوقت الذي يظهر هؤلاء الأخيرون للعالم أجمع، ولا سيّما روسيا، كيف يعاملونه بصفته الحقيقية: وكيل مصالحهم في سورية.

يعرف رأس الطغمة الحاكمة في سورية أن السوريين الذين خرجوا ضده، أي كل سوري عانى خلال حكمه وعلى يده من قتل أقاربه وأصدقائه، أو من الاعتقال، أو من التهجير، أو من قصف مدينته بقنابل وبراميل طائراته، لم ولن يصدق حرفًا مما يريد إثباته. كما يعرف حق المعرفة أن أحدًا منهم -وهم أكثرية السوريين الساحقة- لن ينتخبه إلا في الظروف ذاتها، أي إلا تحت مطرقة وتهديد أجهزته الأمنية التي يضفي عليها اليوم صفة السيادة الوطنية في وجه رقابة الأمم المتحدة الطبيعية على الانتخابات.

لكنه يريد أن يدخل الطمأنينة على قلوب معاونيه وشركائه في الجريمة: ها هو يستعيد قبضة “الرئيس الحازم” الذي يخاطب رؤساء العالم، وكأن شيئًا لم يكن؛ فهو باق في مكانه، وسوف تجري الانتخابات، ولكن بشروطه هو، أي بما يكفل له الانتصار فيها، بعد أن أعلن انتصاره الحربي دون أن يعترف أن ذلك، إذا تحقق فعلًا وهو ليس كذلك، قد تمَّ، لا بمساعدة، بل بفضل شريكيه: الإيراني على الأرض والروسي في السماء وفي مجلس الأمن!

لا يمكن لمن يرى هذه الدمية في حركاتها المرضية إلا أن يتساءل عن شعور حُماتِها الظاهريْن في طهران وفي موسكو، والخفييْن في تل أبيب وواشنطن، إزاء هذا الرجل الذي كان سيواجه مصيرًا أشدّ سوءًا من مصير القذافي، لولا توافقهم جميعًا على ضرورة بقائه -حتى إشعار آخر على الدوام- للحفاظ على مصالحهم. فهذه الدمية لا ترى مسًّا بالسيادة السورية، حين يصرح مسؤولو إيران عن أن لا شيء في سورية يتقرر سياسيًا من دون طهران، ولا عن الاحتلال الروسي وقواعده العسكرية الراهنة والآتية، ولا عن التواجد العسكري الأميركي في قواعده على الأرض السورية، ولا عن القصف الإسرائيلي شبه اليومي لقواعد حلفائه وحماته من الإيرانيين ووكلائهم، على مسافة قريبة من قصره. لكنه يرى جيدًا انتهاك “السيادة السورية”، في الرقابة الصارمة التي تعِدُ بها الأمم المتحدة على انتخابات توشك أن تودي به -كما يخشى لو تمت- وفق الشروط الأممية.

هو ذا في النهاية تجسيد الحل السياسي المُراد، الذي نادى به الجميع من حلفاء النظام ومن “أصدقاء الشعب السوري”، منذ أن تم القضاء على الثورة السورية، تمهيدًا، به وبواسطته، لتأهيل النظام نفسه، برأسه وبمجرميه على اختلاف مستوياتهم. إذ ما كان يبدو قبل عدة سنوات تواطؤًا حول الشأن السوري بين روسيا والولايات المتحدة؛ بات اليوم اتفاقًا واضحًا، وإن كان غير معلن، على قواعد لعبة، تكاد تكون غير مسبوقة على الصعيد العالمي، قوامها المحافظة بطريقة أو بأخرى، وحتى إشعار آخر ما، على النظام الأسدي، بما في ذلك -إن أمكن- رأسه على وجه التحديد. لم تكن إيران غائبة عن هذا التواطؤ من قبل، وهي اليوم حاضرة كل الحضور، وإن كان هامشيًا، في الاتفاق الحالي. ولم يغير منه اختلاف الإدارة في البيت الأبيض بين ديمقراطية وجمهورية. أما وجود الطغمة الأسدية، فهو بلا شك رهن إرادة الثلاثة ودعم كلٍّ منهم على طريقته، ما دامت هي والدمية التي تمثلها، حتى الآن، تؤدي الدور المرسوم لها الذي يستجيب على نحو غريب لمصالح كل طرف على حدة، على ما بين الثلاثة من تناقضات يمكن أن تطيح به في أي لحظة، إذا ما تصادمت يومًا ما.

فبين مؤتمر جنيف الأول عام 2012، والمؤتمر الأخير، في المدينة ذاتها، عام 2017، استطاعت روسيا، بمباركة أميركية خفية، أن تستأثر بالحل عن طريق صيغ مختلفة، بدأت من أستانا، مرورًا باتفاقات خفض التصعيد المحلية، وصولًا إلى مؤتمر سوتشي الموعود الذي تطمح فيه روسيا، ومن ورائها جميع الدول الحليفة للنظام و”الصديقة للشعب السوري”، إلى أن تغرق وفود المعارضة بهذا العدد الهائل من المدعوين، للخروج بقرارات تصوغها الدبلوماسية الروسية ويوافق عليها المؤتمر، كي تظهر روسيا على الملأ بما تسميه الحل السياسي، متمثلًا في دستور لم يضعه ممثلون حقيقيون للشعب السوري، وانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة لكنها تستجيب، بإيماءة روسية بالموافقة، لما سماه رأس الطغمة الحاكمة “السيادة السورية”، ورئيس في النهاية -أيًا كان- على رأس نظام، لا يختلف في قليل أو كثير عن النظام الذي نادى الشعب السوري الثائر بإسقاطه، لا في بنيته، ولا في مناهجه، ولا في أهدافه، خصوصًا قمع كل صوت حر، وتأجيل الاستجابة إلى مطالب الحرية والديمقراطية إلى يوم ما، “حين يبلغ الشعب ذروة نضجه”، كما وعد مستبدو العالم العربي جميعًا، قبل أن يلقوا مصيرهم المحتوم..

ومع ذلك.. مع كل ذلك، ما يزال هناك أمل في إنهاء هذه المهزلة، لو أراد من بيدهم اليوم القدرة على أن يفعلوا: قلب الطاولة على الجميع.. ذلك سلاح الضعيف، دون شك.. لكنه ربما كان السلاح الأنجع.. السلاح الأنجع، استجابة لدماء الذين قُتلوا، وهم يأملون في سورية حرة.


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون