البحر في تجربة حنا مينة الروائية



يحضر البحر في متن حنا مينة الروائي، بوصفه ذاكرة وهوية، وكأفق ينعكس على صفحاته المعرفي والأيديولوجي والوجودي، فالبحر بكل تناقضاته وغموضه وأسراره يغدو في تجربة مينة عالمًا حكائيًا، يمتلك خصوصيته من كونه فضاءً ممتدًا امتداد أحلام الإنسان وتطلُّعاته؛ ذلك أن المشاعر المتناقضة التي يمنحها البحر للإنسان هي التي تجعل منه فضاءً مغريًا، وقد استطاع مينة أن يخلق عبر تجربته السردية بحره الخاص، من خلال التغلغل إلى عالم الصيادين بكل تفاصيله؛ لذا فإنه ينظر إلى ذلك العالم من أكثر من زاوية، عبر وجهات النظر التي يبثها في عالمه الحكائي، ولم يعزل مينة شخصياته عن المدينة الساحلية التي يعيشون فيها (اللاذقية)، بل جعل البحر عالمًا متداخلًا مع البر ومتممًا لسيرورة الحياة فيه، على النقيض مما تكرَّس في أعمال سردية أخرى، ولا سيما رواية (الشيخ والبحر) لآرنست همنغواي؛ إذ جعل البحر عالمًا مستقلًا عن اليابسة عبر خلق فضاء محدود هو السفينة، وقد قضى العجوز سانتياغو ومرافقه الصغير إيمانولين جل الزمن الروائي، وهما في رحلة صيد شاقة لا تثمر عن شيء إلا بعد أربعة وثمانين يومًا. وإذا كان بطل همنغواي أشبه بأبطال الملاحم الإغريقية في صبره وعناده وتحدِّيه للبحر؛ فإن أبطال حنا مينة ليسوا على ذلك القدر من التصوير الملحمي، فهم يعيشون في البحر ويعودون منه ليمارسوا حياتهم الطبيعية ويتفاعلوا مع المكان الروائي وينفعلوا به، وهذا ما تؤكده المدونة السردية لمينة.

لقد أثر البحر على حنا مينة نفسه، قبل أن يؤثر في إنتاجه الإبداعي، ولا سيما أن نتاجه السردي كان بحريًا بامتياز، بل إنه أهم من وظَّف البحر في الرواية العربية؛ لذا لُقِّب بـ (أديب البحر) و(شيخ البحَّارة)، ولعل في الوقوف على ما كتبه وما قاله مينة، في الكتب والحوارات الصحفية، حول تجربته، خيرُ سبيلٍ لكشف تأثير البحر في وعي المبدع ولغته، وقد بيَّن مينة مراحل تطور تجربته الروائية الغنية التي تمتدُّ إلى أكثر من نصف قرن، تاركًا مادة روائية تسعف الباحث وتغني فضوله المعرفي.

يتكلم مينة على تجربته وأثر المكان فيها بإسهاب -أحيانًا- كاشفًا عن محطات مهمة في حياته، بدءًا بـ حي المستنقع في إسكندرونة الذي ولد ونشأ وترعرع فيه، وكان حيًا فقيرًا لم يكن أحدٌ من قاطنيه يجيد الكتابة أو القراءة، مما يشي بالمعاناة التي كابدها مينة أيام طفولته، وقد بدأ تجربته الروائية بكتابة رسائل للجيران أو عبارات على الجدران، وكان للبحر أثر كبير في وعيه، وقد عبَّر عن ذلك بقوله: البحر كان دائمًا مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأُسأَلُ دائمًا هل قصدت ذلك متعمِّدًا؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئًا. لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشمًا على جلدي. إذا نادوا يا بحر: أجبت أنا. البحر أنا فيه، ولدت وفيه أرغب أن أموت”.

يظهر من هذا القول مدى التماهي، بين مينة والبحر، فقد ذاب في مياه البحر واستمد منه عوالم حكاياته وصور أبطاله، فهو لا ينظر إلى البحر، بوصفه عالمًا مستقلًا يلفُّه السحر والغموض، بل ينظر إليه بوصفه انعكاسًا للحياة والصراع الناشب بين الفقراء والبرجوازيين من جهة، والفلاحين المستضعفين والمُستعمِر الفرنسي من جهة أخرى.

عاش مينة سنواتٍ من التشرد والضياع في أوروبا والصين، وبعد أن رحل عن البحر، لم يكتب حرفًا واحدًا طيلة عشر سنوات، يقول: “وبذلك ضاع استواء رجولتي بين الثلاثين والأربعين من عمري سدى، فالنبتة قلما تعيش إلا في تربتها”. فضلًا عن ارتباط مينة الشخصي بالبحر؛ إذ عمل حمَّالًا في الميناء، ثم أصبح بحَّارًا، ولشدة تعلُّقه بالبحر تمنى مينة أن تنتقل دمشق إلى البحر، فعلى الرغم من حبه لدمشق، فإنه لا يريد أن يصير غريبًا عن البحر؛ إذ لا تتحقق له السعادة بعيدًا عن حبيبه الأزرق (البحر).

كان حنا مينة على وعي تام بأهمية المكان والمجتمع في تكوين الفنان والمبدع، فالإنسان ابن تاريخه الاجتماعي، وقد أظهر مينة اثر البحر في لغته السردية، فقد اختار اسم محمد بن زهدي الطروسي بطلًا لروايته (الشراع والعاصفة)، وعلل ذلك بأنه اسم ملائم لجو البحر الذي تدور فيه أحداث الرواية، كما أنه مناسب لاسم ريِّس بحري، فما كان ممكنًا أن يسميه أندريه، أو عفيف، أو نبيل، وكذلك فعل في رواية (الياطر) عندما اختار اسم زكريا المرسنلي اسمًا لبطلها؛ إذ كان المرسنلي شخصية عجيبة فقد كان نصف إنسان ونصف وحش، وقد أكد مينة نفسه أنه تأنَّى كثيرًا قبل أن يمنحه اسم زكريا ليأتي منسجمًا وصفات الصيادين، ويطهر أثر المكان في البطل بعد عودته إلى المدينة؛ إذ جعلته زوجه شكيبة يعود إنسانًا، وهذا يشير إلى أهمية المكان ليس في الشخصية الروائية وحسب، بل في وعي الروائي نفسه، فقد أشار مينة غير مرة إلى أثر البيئة البحرية في تكوينه الروائي من ناحية، وفي لغته الروائية من ناحية أخرى.

ويمكن أن نحصر مظاهر تأثير حنا مينة في تحوير أفق القارئ في الرواية العربية، في ثلاثة مستويات:

– أهمية الحدث الخارجي عندما منح النموذجي معنى الخارق والعجائبي.

– إنتاج بطل ملحمي قادر على تشخيص الوعي الاجتماعي.

– تمكين إشكالية المجتمع العربي الحديث من دلالتها السياسية والاجتماعية.

وأخيرًا، يرى مينة أن على الروائي أن يكون على دراية كافية بالبيئة التي يتخذها فضاءً، لأحداث الرواية التي يعكف على كتابتها، كما ينبغي أن يكون على معرفة عميقة بطبيعة الشخصيات، التي لم تكن سوى نطفة في رحم دماغ المبدع تنمو وتتشكل، ثم لا تلبث أن تصير جنينًا، ومبدعها هو الذي ينمِّيها ويجعلها تترعرع وتكبر في شرطها البيئي والاجتماعي.


جيرون


المصدر
جيرون