جنيف وأحواله ومصيره



يكثر الحديث، في هذه الأيام، عن مستقبل ومصير مؤتمر جنيف، هل سيبقى المسار الوحيد للمفاوضات؟ وهل سيدفن أو يُجمّد في انتظار ما تُسفر عنه مسارات أخرى، بخاصة أن سوتشي يلوح في الأفق؟ والمشروع الروسي وحيد بلا منافس!

الجولة الثامنة التي انطلقت، في إثر انتهاء أعمال مؤتمر (الرياض 2)، وإشراك منصتي القاهرة وموسكو، وسط تخوفات من تراجعات وتنازلات أو تلغيم وحملات مركزة من أطراف مختلفة، تناولت تركيبة هيئة المفاوضات، وتركيبة الوفد، وإطلاق اتهامات مسبقة بالجملة والمفرّق.

كانت جولة جنيف الثامنة تكرارًا لسابقاتها، فلم تتقدّم خطوة واحدة باتجاه جدول الأعمال وبدء المفاوضات، ولو عبر غرفتين مستقلتين، بل على العكس، وعلى الرغم من بقاء الوفد عشرين يومًا متواصلًا، وإعلان استعداده لبدء المفاوضات التحضيرية دون شروط مسبقة، فإن تعنّت النظام ومراوغاته وتكتيكاته المكشوفة حالت دون التوصل إلى أي شيء، حتى في جدول الأعمال الذي حدده المبعوث الدولي، والانسحاب، ورفض العودة إلا بعد ضغط روسي، قيل إنه كبير.

يعود السبب -كما هو معروف- إلى رفض النظام الاستجابة لقرارات الشرعية الدولية، من دون أن يجد جهة دولية معنية تُلزمه، على العكس، فالواقع الدولي الحالي يتصف بغياب دور أعضاء مجلس الأمن الدائمين، سوى روسيا، بخاصة الولايات المتحدة التي ما زالت مستمرة في سياسة الابتعاد، وكأنها تمنح روسيا تفويضًا كاملًا بالملف السوري، في حين يتلاشى موقف الدول الأوروبية.

تنفرد روسيا -حتى اليوم- بالملف السوري، وتطرح مشروعها الخاص الذي يخالف في جوهره ومآله قرارات الشرعية الدولية ذات الشأن، وتدوس على تضحيات الشعب السوري، من أجل الحرية وإقامة النظام البديل، وهي تناور لإيجاد مسارات بديلة تدّعي أنها محطات على طريق جنيف، والحل السياسي.

يعيد المشروع الروسي -كما يعبّر عن نفسه- تأهيلَ النظام وبقائه، وتحت عنوان الدستور والانتخابات، يجري القفز فوق هيئة الحكم الانتقالي، بل فوق المرحلة الانتقالية برمتها. فحين ينجز الدستور، وقانون الانتخابات؛ لا يعود هناك أي حاجة لمرحلة انتقالية، وستكون الخطوة التالية: تفضلوا، أيها السوريون، عودوا إلى البلاد، وانتخبوا من تشاؤون، بواقع بقاء سطوة الأجهزة الأمنية، والدولة العميقة للنظام، وبالتالي إعادة إنتاج النظام ببعض المحسّنات الشكلية، والقيام بمصالحة واسعة وغزيرة وحضور جموع غفيرة، في لقاء سوتشي الجاري التحضير له.. ثم القيام بما يشبه المصالحة بين الحضور، وعلى الرغم من أن كلامًا كثيرًا يتردد عن حدود قدرة روسيا في الضغط عل النظام، وعن تباينات بينها وبين إيران الداعم القوي للنظام، والقوة الثقيلة على الأرض وفي المجتمع السوري الذي تغلغلت فيه لدرجة ملموسة.. فإن صلب المشروع الروسي يقوم على استمرار النظام، وإجراء تعديلات طفيفة فيه، وفي صلاحيات رئيسه، وطيّ صفحة التغيير، ومحاسبة المجرم رأس النظام، وكبار رموزه من الملوثة أيديهم بدماء السوريين.

هذا الواقع العنيد يطرح تحديات وأسئلة مهمة على قوى ووفد الثورة والمعارضة:

– ما هي الجدوى الفعلية من مواصلة مسلسل جولات جنيف؟

– هل يمكن الانضواء في المشروع الروسي وآخر طبعاته: لقاء سوتشي؟ أو رفض الحضور وتحمّل التبعات المباشرة واللاحقة؟

– ويبقى السؤال الأهم: إذا فشل مسار جنيف في تحقيق خطوات ملموسة، ورفض حضور مؤتمر سوتشي؛ فما هي الخيارات والبدائل؟

لا شكّ أن حضور جنيف سيتواصل، ولن تُقدم المعارضة على مقاطعته، ولو استمر بشكليته ونتائجه الهزيلة، تأكيدًا للتمسك به مسارًا رئيسًا للحل السياسي، ومحاولة لتحقيق بعض النقاط الإيجابية، في كشف بنية النظام وطبيعته، والضغط على المجتمع الدولي للقيام بدوره المأمول، لكن في الوقت نفسه لا بدّ على المعارضة أن تبحث عن بدائلها الأخرى التي تمكّنها من الدخول طرفًا في المعادلة، بثقل يتناسب والتضحيات الشعبية، واستمرار إرادة الثورة حتى تحقيق الأهداف، وهو ما يعني وقفة شجاعة لبحث مجمل المفاعلات والإمكانات والسبل، ووضع برنامج عملي قابل للتطبيق.

قد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، وسيواجه صعوبات وتعقيدات متشعبة، وهزّات وخضّات داخلية، من قبل الدول المحسوبة على أنها أصدقاء الشعب السوري، وأنواعًا من الضغوط، لكن لا بديل آخر، بخاصة إذا ما عرفنا أن المعركة طويلة مع النظام، وأنها لن تنتهي لا في سوتشي ولا في مثيلاته، وأنه ما لم تمتلك قوى الثورة والمعارضة أوراقًا حقيقية، تضغط وتفرض بها وصولًا إلى حل سياسي حقيقي؛ فإنها ستكون ورقة خفيفة قابلة للتمزق، والتلاشي.

أمام قوى الثورة والمعارضة، العديد من الفرص، وأهمها العودة إلى الشعب وفعالياته، والاستناد إليه، وبناء علاقات مستمرة ومنتجة ستكون عامل قوة، إلى جانب إعادة النظر بالعلاقات مع الأشقاء والأصدقاء، على أسس المصالح المشتركة والروابط الاستراتيجية.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون