سوتشي بين ذهنية لعلّ وعسى… ومنطق ولكن



يُحكى أن بقرة أحدهم كانت قد ضاعت، فبحث عنها في جميع الأماكن التي توقّع أن تكون فيها، ولكنه لم يعثر منها على أثر. ولم يبق أمامه سوى الوادي، فتوجه إليه على أمل أن يجدها فيه. وهنا سمع صوت أحدهم يبشّره بعثورهم عليها، ولكنه رفض العودة قائلًا: طالما وصلتُ إلى هنا، فسأذهب إلى الوادي للتأكد. هذا مع أنه كان متيقنًا من عثورهم على البقرة.

تذكّرت هذه القصة بفعل تداعي الأفكار، وأنا أتأمل في موضوع اللقاء المرتقب الذي تعمل روسيا من أجل ترتيبه في سوتشي، ومناقشات حشدٍ من المعارضين السوريين للفكرة، وما إذا كان من المفيد المشاركة فيه أم لا؟ هذا مع معرفة الجميع بعدم وجود أي فائدة مرجوة من هكذا لقاء ينظمه الروس بالتنسيق الكامل مع النظام، وذلك من أجل إضفاء بعض المشروعية السياسية على كل ما فعلوه حتى الآن في ميدان دعم النظام عسكريًا، والقتال إلى جانبه، والتغطية عليه سياسيًا في مجلس الأمن، وسعيهم المستمر لتفكيك المعارضة، وفرض المقرّبين منهم عليها.

القسم الأكبر من هؤلاء المعارضين، القدامى منهم والجدد، يدركون تمامًا أن لقاء سوتشي سيكون مجرد تجمع كرنفالي، يجمع بين شبيحة النظام وأنصاره الرماديين، ومجموعة أخرى من اللاأدريين والباحثين عن موقع ما في أي مكان، بصرف النظر عن المآلات.

أما سعي موسكو المستمر لإقناع مجموعة من المعارضين المعروفين بالمشاركة، فإنما هو بهدف إضفاء قسط من المشروعية على عمل مركّب، من ألفه إلى يائه، وفق مقاسات النظام وحلفائه، ومع ذلك يصر بعض المعارضين، تحت شعار الواقعية، على المشاركة، وذلك من باب تجربة المجرّب، والاقتداء بمنطق صاحبنا الباحث عن البقرة.

أما الفتوى التي يلحف عليها بعضهم، ويلتحف بها، فخلاصتها: أن اللقاء ربما يخدم مسار جنيف، (كما فعل مسار آستانا). أي أن جنيف هو الأساس، والمسارات الأخرى الفرعية إذا كانت تساعد على التقدم في مسار جنيف، فلا ضرر ولا ضرار من المشاركة فيها.

هذا في حين أن الجميع يعلم أن مسار آستانا قد أتاح المجال للروس، للتحكّم بالفصائل الميدانية، وتفكيكها، مستغلين في ذلك نقاط الضعف ضمن الفصائل المعنية، وهشاشة علاقاتها مع الهيئة العليا للتفاوض، وانسياقها خلف أولويات الرعاة والداعمين من دون التمسك الصارم بأولويات الشعب السوري، التي من المفروض أن تكون هي الهدف والمنطلق في التعامل مع الشقيق والصديق، والقريب والبعيد.

أما الزعم بأن آستانا خدمت عملية جنيف، فهذا وهْم تراءى لبعضهم واقعًا، فحاول أن يصدّقه، ويسوّقه. فمباحثات جنيف لم تتقدم قط، بل لم تبدأ بعد، حتى نتمكن من الحكم على مدى وطبيعة استفادتها مما جرى في آستانا، بخصوص مناطق خفض التوتر، وموضوع مكافحة الإرهاب.

واليوم تسعى روسيا مجددًا، سواء عبر الضغط على المندوب الدولي دي ميستورا أم على المعارضة، لتمرير هرطقة مناقشة الدستور مع النظام بقصد إجراء تعديلات شكلية، ستكون حبرًا على ورق ليس إلاّ، طالما بقيت المنظومة الأمنية-العسكرية على حالها؛ ليتم بعد ذلك تنظيم انتخابات عامة هلامية، تشرعن نظامًا لم يترك جريمة من الجرائم الموجهة ضد الشعب والإنسانية إلا ارتكبها.

ومن بين الحجج التي يقدمها أنصار المشاركة في اللقاء المفترض، قولهم إن الرافضين لسوتشي لا يقدمون بديلًا مقنعًا؛ فهم يرفضون المشاركة من دون توفر خيارات أفضل، وهي حجة تبدو قوية في ظاهرها، ولكنها متهافتة على الصعيد الواقعي. فعدم وجود خيارات أفضل لا يسوّغ أبدًا الإقدام على خطوة انتحارية، مآلاتها السلبية واضحة منذ الآن على مختلف المستويات.

فعلى المستوى الشعبي الداخلي السوري، سيكون هناك انقسام حاد لن يستفيد منه سوى النظام. وعلى المستوى الدولي، ستكسب روسيا المزيد من الأوراق في الملف السوري، تستخدمها لتحسين شروط الصفقات في ملفات أخرى.

ولكن أن تساهم المعارضة بنفسها في عمليةٍ تعرف علم اليقين بأنها لصالح النظام، فهذا فحواه أنها، أو بكلام أدق، من يود المشاركة منها، على استعداد للاستمرار في التنازلات العبثية، من دون أي نتيجة لصالح الحل السياسي المعقول المقبول المطلوب في سورية.

أما التذرّع بغياب الدور الأميركي الفاعل، وكذلك الأوروبي، فهو الآخر لا يعفينا من مسؤولية الخضوع للإملاءات الروسية التي نعلم تمامًا أنها تأخذ في حسبانها مصلحة النظام أولًا وقبل أي شيء آخر، وتعتبر ذلك ركنًا محوريًا في سياستها على مستوى سورية والمنطقة كلها. فكلنا على دراية بذلك، إلا أن بعضنا يتجاهله، ويحاول أن يقنع نفسه قبل الآخرين بأنه يمارس الحنكة السياسية. هذا في حين أن الظروف البالغة التعقيد التي نواجهها، تستوجب إعادة النظر في أولوياتنا، وأساليب عملنا، وعلاقتنا؛ على أن نركز في ذلك على إمكاناتنا الكبيرة التي لم نستفد منها حتى الآن بكل أسف. بل راهنّا نتيجة القراءات الخاطئة على التعاطف الدولي الكبير مع قضيتنا، الذي تجسّد في مجموعة أصدقاء الشعب السوري الكبيرة، ذاك التعاطف الذي لم يتمكن من إصدار مجرد قرار إدانة ملزم للنظام، على الرغم من كل جرائمه.

المنطق السليم يستوجب التركيز على مسار جنيف، وترك مؤتمر سوتشي للقائمين عليه، وكل ذلك يتطلب المزيد من الصبر والقدرة على التحمّل، وترتيب البيت الداخلي لقوى الثورة والمعارضة، والاستقواء بالشعب السوري قبل كل شيء. فهذا المؤتمر يذكرنا -بغموضه ولا معقوليته- بأجواء “المحاكمة” لكافكا. نجهل أسماء المدعوين، وليست لدينا أي فكرة عن جدول الأعمال، ومعايير المشاركة، والورقة الخلفية، وطبيعة التعامل مع النتائج والمخرجات.

أما بالنسبة للمستعجلين اللاهثين خلف السراب، فلنتركهم وشأنهم، لأننا لن نتمكن من تلبية عقدهم غير المشبعة على حساب تضحيات وعذابات وتطلعات شعبنا.


عبد الباسط سيدا


المصدر
جيرون