في رواية “قصر القمر”



ربما كانت آليات التشكيك والتشتيت والتغريب والاختلاف، من أهم السمات التي عُرفت بها فترة ما بعد الحداثة، واقترانها بفلسفة الفوضى والتفكيك، والبعد عن المركزية، وعلى الرغم من التباس مفهوم هذا المصطلح، لجهة توزعه بين الاقتصاد والسياسة، والفنون بأشكالها، والأدب ونقد الأدب، والعلم والتاريخ، والتداخل الحاصل بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فقد كان بوابة للانفتاح على مناخات نفسية، وعوالم فكرية، وفضاءات بكر غير مطروقة، لما تزل تحفل بالكثير الكثير من أفانين الكشف والتفكيك، لبنية العقل والواقع وتجلياتها في النصوص الفكرية والأدبية، كمشروع لم ينته بعد.

في رواية (قصر القمر) لـ بول أوستر (ترجمة عبد المقصود عبد الكريم 2015)، وهو الأميركي الحائز على جائزة (أستورياس) للأدب لعام 2006، وقد عدّت أعماله منضوية تحت يافطة ما بعد الحداثة إلى حد ما؛ لما احتوته من التشتت والتشظي بالمفاهيم، ونزع الوهم بالارتقاء الصاعد للتطور، والتركيز على البنيات المهمشة والعادية للبشر؛ إذ تتبدى لنا أجواء الوحدة والعزلة والفشل، والبحث عن الهوية التي وسمت عصر المنافسات العلمية، في بداية القرن العشرين وما بعده، مكرسة عبر أجيال ثلاث في سرد تشويقي كثيف الدلالة، لناحية ثراء النص، وعمق الشخوص، ودقة التفاصيل التي دارت فيها محاور السرد.

البحث عن الأب هو الخيط السردي الواصل بين الشخصيات الثلاث: الجد، والأب، والحفيد/ الأب المفقود عبر أجيال ثلاثة، وما إن يُكتشف حتى يتلاشى ليعيد دائرة الأسئلة الوجودية غير المنتهية، حول العزلة والهوية والانتماء. تيمة يلعب عليها أوستر بسردية مشوقة، على لسان الحفيد: ماركو ستانلي فج، الشخص العالق بالحياة.

الحفيد اليتيم الذي توفيت والدته، وهو ابن الحادية عشر، ولغز وجود أبيه الغامض والأبوة الروحية لخاله (فيكتور) عازف الكلارينت المتجول الذي تركت لدغة القدر برحيله جراحًا بالغة القسوة في نفسه، أسلمته لحالة ضياع وتوهان في أزقة نيويورك، وانهيار للنفس بتأثير الوحدة والعزلة والأحاسيس الغامضة التي تنتابه كفردٍ، انفلت من مداره بعد دورانات عديدة من التحليق، تنقذه (كيتي) الصبية الصينية التي عشقها فيما بعد، وصديقه (زيمر)، من نهاية كادت تودي بحياته، وبعدها يحظى بوظيفة دليل روحي ومرافق لرجل عجوز وثري، ليكتشف فيه شخصية رسام عميقة وآسرة، شخصية فنان اغترب إلى الطبيعة البكر، ليعيش طقوس الرسم بغرابة وتجل خاص لدواخل الذات البشرية، ولكنه يُفقد في تلك الأصقاع الغريبة، ويواجه عصابة في مخبئه، الكهف، ويقوم بالقضاء عليها، والسطو على أموالها،  ليعاود الظهور باسم شخصية جديدة، ويستسلم لموت شخصيته الحقيقية، ولكن عالمه القديم يطل، باكتشافه وجود ابنٍ له من زوجته السابقة، لا يرى فائدة أن يتعارفا إلا بعد رحيله عن العالم، عبر رواية طويلة عن حياته، يرويها لمرافقه ويكلفه بنقلها لابنه عند موته، وتتوالى الأحداث ليفاجىء المرافق بأن من سيخبره بموت أبيه، ويطلعه على تاريخه، هو أبوه الذي لم يدرك حقيقة وجوده، إلا بعد فترة من تعرفه عليه، وبأن العجوز هو جده.

لندخل في حياة فترة مهمة من تاريخ أميركا والصراعات العلمية، المواكبة لتدفق الفنون والاختراعات، تبدت بالإشارة إلى العام الذي نزل فيه الإنسان على سطح القمر عام 1492 والموافق لعدد الكتب الذي تركها الخال فيكتور لمارك، الذي يشير اسمه إلى ماركو بولو مكتشف أميركا.

في حواريات الجد والحفيد، يشكك أوستر في التاريخ العلمي لأديسون الشخصية الأشهر، بصفته مخترع المصباح الكهربائي، فالتشكيك بالثوابت السائدة من أهم سمات ما بعد الحداثة، باستنطاقه (إيسلا) الذي عاصره، متهمًا إياه بسرقة جهده وعلمه، كما كان للنزاع العلمي بين مفهوم التيار المتردد والتيار المستمر، كارثة اختراع الكرسي الكهربائي، الذي صدر إلى سجون العالم، في تورية مزدوجة لآثار التطور التقني العلمي، بين المصباح الذي أنار العالم والكرسي الذي أهلك الكثيرين.

يقول أوستر: إنه يبدأ بكتابة الشخصية، وفيما بعد تتحول إلى كائن من لحم ودم، يقود توجهات الكاتب، لبعث ذاك النموذج من الأدب الذي لا يتعلق بنهاية أو نقطة للبدء، أو ذروة للأحداث، بتسليطه الضوء على أعمال فنان اتهم بالجنون، وهمش وجوده، من خلال التمعن في لوحة ضوء القمر، بصفتها عملًا روحيًا عميقًا، مشهدًا للجوهر والسكون، الرسم الذي لا يتكشف لناظره من الوهلة الأولى، الرؤية المتأنية والعميقة تدخل في روح مبدعها الأصلي، لتتوغل في طبقات وعيه للأشياء، كيف تُظهر السماء في الليل في ضوء القمر، تدرجات الأخضر والدخول في لغة اللون، فالمسألة ليست في تشكيل منظر طبيعي، ولكن ذاك التداخل الغريب بين النفس وأحوالها، وماهية الطبيعة المستغلقة على الفهم، بإشارة إلى عالم الهنود، السكان الأصليين للمكان، أي إلى العالم الفطري الطبيعي المتناغم بين الطبيعة والإنسان، كلوحة تذكارية لأغنية موت وعالم تلاشى، أتى الرجال البيض لتقويض هذا التناغم، بتلميحه إلى مذبحة (وندد ني)، المذبحة التي قتلت فيها القوات الأميركية حوالي  مئتين من السكان الأصليين في عام 1890.

الأقمار المتكررة في لوحات بليكوك، لم تعد أقمارًا بل صارت ثقوبًا بيضاء، منافذ من البياض تطل على حقائق أخرى، راح ماركو يطل من خلالها على العوالم الداخلية، للفنان الذي انطفأ في جنونه وتعاسته.

القمر كعتبة نصية انطلق فيها أوستر من العنوان (قصر القمر) برموزه المتعددة كأسطورة للبعيد غير المتحقق، بتأثيراته الجاذبة والمؤثرة على الذات البشرية بكل تلاوينها، لينتقل إلى حقيقته كجرم سماوي، كتلة حجرية صماء ضمن منظومة الفضاء الكوني، مزاوجًا بين القمر، كمؤثر شاعري دار بمخيلة الفنانين ردحًا غير قليل من الزمن، وحادثة هبوط للإنسان على سطح القمر، باعتبارها واقعة علمية لا جدال فيها، كصورة للمعاني المتواترة غير المنتهية للجوهر الواحد.


دعد ديب


المصدر
جيرون