عن التغييب والإهمال
25 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
هل من التطرّف القول: إن تكريم المبدع، بعد رحيله، لا يعدو أن يكون من باب رفع العتب، أو الاعتذار المُتأخّر -جرّاء الشعور بالذنب والتقصير غالبًا- الذي كثيرًا ما يكون أقبح من الذنب ذاته.
وهل لهذا ذهبت قولة الناقد الكبير رجاء النقَّاش، في الكاتبة سميرة عزَّام، التي لم يشتهر اسمها وتُعرف إلاّ بعد رحيلها: “لم تُظلم كاتبة في الوطن العربي كما ظُلمت سميرة عزَّام”، مذهبَ الأمثال الدالة على مَنْ يُغيَّب ويُهمَّش في أثناء حياته وعطائه، حتى إذا ما رحل مختنقًا بشعور المرارة والخيبة، أُعيد النظر بما أبدعه وشغله من دور في الحياة الثقافيّة، وجرت المسارعة إلى تكريمه وتقديره، وتظهير مكانته وأهميته في المشهد الأدبي؟
ليس في مطرحه القول: تكريم المبدع متأخّرًا خير من أن لا يُكرَّم أبدًا. إذ ما من معنى لأن يُحتفى بالمبدع وتُسلَّط الأضواء على إنجازه بعد رحيله. ما من فائدة تناله، ولا من متعة تساوره، ولا من شعور لديه بأنه حظي بحقه؛ لسبب بديهي ونافل أن هذا كلّه يجري في غيابه.
في حضوره وحياته، تكون الوقائع مزرية حياله -سواء عن تعمّدٍ أو تراخٍ- موجعة لمشاعره، وظالمة لمنجزه وحقه؛ لأن عطاء الكاتب وإبداعه وتميّزه، من دون صدى طيّب وتلقٍ رفيع، حافز من شأنه أن يساوي -على الأقلّ- بين الرداءة والإبداع، إنْ لم يعمل لصالح الأولى، ودعمًا لمنتجيها.
خطورة ظاهرة كهذه، أنها توسّع الدائرة خارج ظلمِ كاتبٍ مُحدَّد بعينه، فتُضاعف مخاطرها على مجمل الحياة الثقافيّة. تصبح تقليدًا تُمارسه الأجيال وتحتذي به. ويغدو الانتقاد لها والشكوى منها -كهذه المقالة- سردًا بائسًا لوجه من ظاهرة بائسة، فنعتاد على حضور الظاهرة البائسة في حياتنا، ومعها وجهها الآخر عديم الأثر.
سيُطرح رأي يرى أن الاهتمام والاحتفاء بكتَّاب أحياء يثير غالبًا -إنْ لم يكن دائمًا- غيْرةَ واعتراض كتّاب آخرين على مدى جدارة المُحتفى به أو أحقيّته بالاهتمام عن سواه، وخصوصًا من بين مجايليه. وهو حال جارٍ حقيقة وفعلًا، منذ زمن بعيد مضى، وفق ما تُخبرنا مدوَّنات تاريخ الأدب والأدباء. ولكنْ ما العمل؟ هل يكون بالحجب والتعتيم أو الإهمال على ما جرى مع سميرة عزَّام (مجرّد مثال) لأنها أنثى -أو لذرائع أخرى- رغم ما أبدعت وكانت رائدة في حقله؟
حتى شاعرنا محمود درويش، وُجِد مَنْ يعترض بكذا وكيت على ما ناله -في أثناء حياته- من اهتمام نقدي واحتفاء إعلامي وتقدير شعبيّ هائل، وعمّا عاينه بنفسه، واغتبط به وتنعَّم، قبل أن يمسي في حضرة الغياب. الأمر ليس بجديد إذًا، ولا هو بحائلٍ دون تكريم مَنْ أبدع وتميَّز، فكيف اتّجاه مَنْ كان رائدًا، لا زمنيًا ومصادفة تاريخية، بل إبداعًا وجدارة فنيّة ومحتوى ورؤيا في المقام الأوّل!
ولكيلا نراكم مزيدًا، إلى ما شهدت الحياة الثقافية منه الكثير، ممن تُضرب بهم الأمثال على التنكّر لهم وتهميشهم؛ لا بدّ من الالتفات -إعلاميًا نقديًّا- إلى مَنْ يستحقّ الالتفات إليه، والاهتمام به وبمنجزه -في حياته على الأخصّ، وذروة إبداعه- كي ينعم ويرتوي بما يستحقّ، من دون فضلٍ منَّا عليه، ولا منه علينا.
ولا أخفي الشكَّ الذي انتابني في جدوى -وحتى معنى- وقفتي هذه، جرّاء مقالات سبقتْ على مدار عشرات السنين الماضية، لا هي أجدت، ولا عنت شيئًا، وفق ما يبدو من استمرار واقع الحال الغرائبي العربي؛ بَيد أنّ أملًا في احتمال تسوية جزءٍ من واقع حياة، لطالما اتَّسم بالاعوجاج والأخطاء، بل بالخطايا؛ يدفع إلى معاودة الإشارة والتنبيه، وإنْ تدحرجت الصخرة من علٍ، مرَّة بعد أخرى.
إبراهيم صموئيل
[sociallocker]
جيرون