المتعصب بين جنون الإيمان واستلاب الإنسان



كاد ستيفن سبيلبرغ أن يقنعنا أن القرن الحادي والعشرين هو قرن للانشغال بالتقنية والتطوير الآلي، وكدنا نحن -المتأثرين بطروحاته- أن نضع أيدينا بعد قراءة كتابه (ذكاء اصطناعي) على السؤال الذي سيشغل البشرية بكاملها: هل سيصبح لدينا واقع افتراضي يحل مكان الواقع الحقيقي؟ وكيف سيتم ذلك؟

لكننا، ويا للمصادفة، نعود للانشغال بما اعتقدنا أنا تركناه خلفنا؛ إذ يهتم العالم اليوم بالصدام الناشئ عن الاختلافات: “صدام الحضارات – صدام القوميات – صدام الأصوليات”، بخاصة في راهن منطقتنا العربية، ووجدنا أن الأسئلة الأهم المطروحة أمامنا تدور حول: هل انتهى التاريخ حقًا؟ وهل انتهى عصر العقل لنبدأ الخوض في بحيرات الدم؟ وهل أصبحنا رهن فرز حاد ونهائي للبشرية؟ وأين انتهى بالضبط رسول عصر الأنوار الحامل للتنوع والتسامح؟ إن عالم اليوم يصبح أكثر فأكثر على الضد من تفاؤلنا، والأرجح أن أحدًا لن يعرف أبدًا أين ستنتهي بنا حالة التعصب التي تتبناها أطراف مختلفة.

التعصب -بوصفه مفهومًا- جاء من القرن الثامن عشر، جرى وصفه للتنديد بتزمت ديني أطلق عليه اسم “زيلوتيه”، نسبة إلى زيلوت اليهودي المتعصب، وحينئذ ساد الاعتقاد بوجوب زواله مع الوقت، لكن “هالدن” كتب أن “التعصب هو واحد من أهم الابتكارات الأربع ما بين 3000 قبل الميلاد إلى العام 1400 بعد الميلاد وعلى خُطا “هالدن”، وجد “أرثر كاستلر” أن عصرنا أصبح ميدانًا خصبًا لممارسة التعصب، ويورد مثالًا على ذلك بأن القرن العشرين لم ينجب سوى “الهتلرية والستالينية، والماوية”.

أمام هذا الواقع المتأزم، انشغل الباحث الفرنسي برنار شوفييه، بظاهرة التعصب، ويأتي كتابه الصادر حديثًا، كمحاولة لفهم هذا الإشكال في مراكمته للأمثلة والأدلة لدعم أطروحته، جاء الكتاب تحت عنوان يلفت الانتباه (المتعصبون) بترجمة الدكتور قاسم المقداد، وصدر عن دار نينوى للدراسات والنشر، ويقع الكتاب في 255 صفحة من القطع المتوسط، وانقسم إلى مقدمة وخاتمة وتسعة فصول.

مع الانتقال إلى المضمون، فإن أبرز ما جاء في الكتاب هو كمية المفاهيم التي تعبر بين علوم إنسانية متعددة: “علم النفس، والفلسفة، والتاريخ، وعلم الاجتماع”. يدفع الكتاب قارئه إلى تعميق تفكيره حول ظاهرةٍ، طالما اعتقد أنها بسيطة كمن يتساءل: من هو المتعصب؟

يعلن برنار شوفييه، منذ البدء، صعوبة الخوض في أطروحته، فيقول في مفتتح كتابه: “إن رسم لوحة للمتعصب يعني أن نضع له وجهًا، ونتعرف على الشخص الذي يتخفى خلف القناع” ص 9. فهو يرى أن المتعصب: “إنسان المقدس”، مما يحيل البحث إلى وجهة “البنية النفسية” التي تصنعه، وبالتالي تميزه عن الأيديولوجي والطوباوي.

التعصب من هذه الزاوية “البنية النفسية” يقسمه شوفييه إلى أنماط أربعة: “الملهم والمعظم والمطلع والساخط”، وهي أنماط قديمة، أضيف إليها نمط في الزمن الحديث، يدعى “الإرهابي”. ص 12-13

هذا التقسيم يبين ما يود الباحث إظهاره، فيقول “ليس التعصب ابن اليوم، ولم ينشأ مع الحداثة” ص 15. وهو بذلك يقطع الدراسات التي أرادت إثبات أن العنف التعصبي الحاصل هو نتيجة منطقية لطغيان العولمة والحداثة على المشهد العالمي، وإذا ما تأملنا ترتيب البحث؛ وجدنا أن الأطروحة التي يتبناها تقوم على إثبات الفكرة، وفق سياق زمني “كرونولوجي”، ليجعل التاريخ قابلًا للدراسة والتحليل الموضوعيين، بتتبع تاريخي وثقافي، وتحليل نماذج وجدها مادة خامًا لأشخاص شغلوا معاصريهم بتوجهاتهم وآرائهم وأعمالهم، ومنها رأى الباحث أن التعصب يخضع في تشكله إلى بنية واحدة ساعيًا في مؤلفه إلى استكشاف المنطق الداخلي الذي يحكم هذه البنية، إذ يورد على لسان “برودانتيوس” ثلاث نماذج للتعصب: “ملهموا إيزيس، وساخطوا بيلونيا، ومجانين سيبيليا”، وللإفصاح عن المقترب الذي ينبغي أن يفهم النص بمقتضاه، لا بد من إيراد رؤيته حين قوله: “إذا كان أتباع (سيبيليا) قد خصوا أنفسهم في الممارسة الطقوسية للرعدة؛ فإن البتر في المقابل أصبح جماعيًا لدى الفاليزيين، واتخذ طابعًا قابلًا للتعميم. وبهذا يكون التعصب قد تجاوز إحدى العتبات” ص 24. الفرضية هنا تقول بمحاولة إضفاء العلة التاريخية على التعصب، مما يمكننا من التساؤل كقراء: أي من الدوافع الظاهرة لعمل التعصب (الدين، الشهادة، الأيديولوجيا) هي المادة الأولية له؟

يتصدى الباحث للإجابة، بإيراد نموذج تاريخي، يكتب شوفييه: “أما سافونارول، فقد كان راديكاليًا متدينًا، تحول إلى متعصب منذ اللحظة التي أصبح فيها فكره قادرًا على إحداث التغيرات المنشودة، فتضمنت عظاته تهديدات، سرعان ما ألحقها بالأفعال، لتشتعل بها فلورنسا” ص 110، إذًا، وحسب توضيح شوفييه، فإن “وهم النقاء مولد للتعصب”. ص 72

فالممثلون للتعصب الإرهابي الذين ساقهم الباحث، كدال على رؤيته، تلاحظ في قراءتك اختلافًا حاسمًا في آرائهم “فتارة هناك من يقلل من شأن الوسائل التدميرية، أو مَن يعدها شرًا لا بد منه لتمجيد عظمة القضية التي يتم الدفاع عنها ونبلها، كالفضيلة والمساواة والعدل والنقاء والثورة”. ص 137.

الفرد المتعصب لا يعود سيد نفسه، وعادة ما يغيب عنه حس التمييز والحكم الشخصي، يملك إيمانًا بسيطًا وقناعة لا تهتز، وهنا يصل برنار شوفييه، من خلال تتبعه التاريخي، إلى مثال (الكاميكاز)، إذ يجدها تمثل “أكمل اشكال التعصب؛ لأن من يقدم على هذه التضحية بالنفس يبرهن عن إيمانه المطلق بالقضية التي يحملها وتحمله”. ص 152.

ومنه يصل شوفييه إلى “الكاميكاز الإسلامي”، أو بمصطلحه الحديث “الإرهابي”، ويقترح الباحث لفهم المسار الداخلي للكاميكاز -التضحية بالنفس- ثلاث خصائص تميزه؛ فهو أولًا واقع تحت السلطة التامة لأيديولوجيا معينة دينية أو سياسية، وثانيًا هو متشبع بالمثال الجمعي، فلا يستطيع احتمال التناقض، وثالثًا هو يرى أن الفعل العنيف المتعصب هو الشكل الوحيد الفعال لخدمة القضية. ص 167- 168

المتعصبون الذين قام برنار شوفييه برسم صورهم مندمجون، كلٌّ على طريقته في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة، لكنهم مع ذلك يشتركون في المنطق الداخلي نفسه. ص 251 وفي النهاية، يقترح البروفسور شوفييه موضوعات كالتربية وإقامة المؤسسات المرنة والتشاركية، إذ يجد فيها أفضل اللقاحات لاتقاء الفيروس التعصبي.

يكسر الكتاب الصورَ النمطية حول التعصب، كمتلازمة الفقر والتهميش أو التعرض لعمليات غسل دماغ، ويساعدنا في كشف أكثر المسائل خطورة وتعقيدًا في راهن الحال العالمي. فالباعث على تأليف هذا الكتاب، بعد قراءة متأنية، هو إعطاء فهم جديد للتعصب في مستوى الإشكالات والرؤية ومدارات البحث، وما يوفره كل ذلك من انفتاح على الهاجس الإنساني ومقاربة أهم شواغل الفرد المعاصر لتثير لديه خطير القضايا ودقيقها.

يصح القول -إجمالًا- إن الكاتب يدفعنا إلى وقفة تساءل وطلب للفهم، ويحاول الانتقال بنا في تدبير شأننا السياسي من الحقد الاجتماعي إلى العقد الاجتماعي العادل. ولعنوان الكتاب إغراء كبير يمارس ذاته على النفوس، بلغةٍ تناسب أفكار البحث من خلال ترجمة وافية ومبدعة، أنجزها أكاديمي متمرس في حقلي الفكر والفلسفة.


محسن المقداد


المصدر
جيرون