نحو مبادرة لعقد ملتقى وطني سوري



يُخشى أن الوقت تأخّر كثيرًا على إعلان مبادرة لعقد ملتقى وطني سوري، بعد كل هذه التراجعات والخلافات والإحباطات في أوساط المعارضة السورية، العسكرية والسياسية والمدنية، لا سيّما على ضوء إخفاق خياري العسكرة والمفاوضة، بعد ما حصل في حلب (أواخر العام الماضي)، والتخبّط الحاصل في أوضاع الكيانات السائدة، وثماني جولات على المفاوضات في جنيف، ومثلها في أستانا، وعلى أعتاب مؤتمر سوتشي، وبعد كل هذا الارتهان للأطراف الخارجية، التي باتت تهيمن على معادلات الصراع في سورية أكثر من قوى المعارضة السورية.

تؤكد كل هذه المعطيات والمداخلات، المعقّدة والصعبة، ضرورةَ إطلاق مبادرة كهذي، لأنه لا بد منها، أو لا مناص عنها، لتغيير واقع الحال، ولإعادة تصويب حال المعارضة، وتمكينها من استعادة خطاباتها المتعلقة بالحرية والمواطنة والديمقراطية، وإعادة بناء كياناتها، وتنظيم علاقاتها الداخلية على أسس تمثيلية وديمقراطية ومؤسسية، وترشيد طرق عملها وكفاحها، على كافة الصعد.

بيد أن هذا الأمر يحتاج إلى أحدٍ ما، يأخذ بيده زمام المبادرة لتنظيم مثل هذا الملتقى، بحيث تتم دعوة مجموعة من الشخصيات (50 – 100 – 200 ليس مهمًا العدد)، من تلك التي لديها رصيد في مجتمعات السوريين، في الداخل والخارج، ومن ذوي الرأي والخبرة والتجربة، بمعزل عن أي حساسيات أو حسابات شخصية أو فئوية أو فكرية؛ للتلاقي في مكان ما، بعيدًا عن أي تدخلات أو مداخلات خارجية.

في الواقع ثمة حقًا ما يدعو للدهشة والأسى؛ إذ إن السوريين، بعد سبع سنوات من الثورة والمعارضة، ومع كل هذه التجارب والتضحيات والمعاناة، لا يجدون كيانًا سياسيًا، ولو على شكل جبهة متعددة التيارات والكيانات، يعبّر عنهم، ويمثلهم، ويتمثل مصالحهم، ويدير كفاحهم، ويشتغل على تنظيم أحوالهم، في الداخل والخارج، وأنهم، فوق ذلك، يفتقدون طبقة سياسية تحظى بإجماعهم، ولو كان نسبيًا، ويمكن أن يكون لها صدقية للدعوة لمثل هذا الملتقى لمراجعة التجربة، واستنباط الدروس والعبر منها، وتقرير ما هو صائب من خيارات وبني وأشكال عمل.

بل لعلّ الأكثر مدعاة للإدهاش والإيلام والأسف أن الشخصيات المعروفة في أوساط المعارضة أسهمت -من حيث تدري أو لا تدري- بإضعاف رصيدها، وتبديد صدقيتها؛ إذ إن معظمها يبدو على استعداد دائم للتجاوب مع أي دعوة، من هذه العاصمة أو تلك، لحضور اجتماع فيها، أو للإعلان عن تشكيل كيان منها، بل إن البعض يمكن أن يطرح التساؤلات عن مغزى عدم دعوته لاجتماع كهذا، وحتى التشكك بالحاضرين، وبما تم التوصل إليه، في غيابه، أو من دون حضوره. في المقابل، فإن الشخصيات المعنية هذه تبدو غير مستعدة، في أغلب الأحوال، لتلبية مثل تلك الدعوة، للاجتماع أو للحوار، بشأن أمر معين، إذا صدر من هذه الجهة أو الشخصية، أو تلك، أي باستقلالية عن أي طرف خارجي!

الأنكى من ذلك أننا شهدنا، طوال السنوات الماضية، أن مثل هذه الشخصيات تخلّت عن دورها، وعن استقلاليتها، في تعاملاتها مع هذه العاصمة أو تلك، وحتى مع سفير أو موظف في خارجية دولة ما، في حين أنها أبدت عنادًا وتحجرًا وغطرسة في تعاملاتها البينة!

فوق هذين، وربما أخطر منهما، أن معظم شخصيات المعارضة رضخت -عن قناعة أو من دونها- لتدخلات هذه الدولة أو تلك، حتى في تشكيل كيانات الثورة السياسية والعسكرية والمدنية، حصل ذلك، إبان تشكيل “المجلس الوطني”، و”الائتلاف الوطني”، و”الهيئة العليا للمفاوضات” رقم 1 ورقم 2، وفي شأن مسار أستانا، وتسمية وفودها التفاوضية فيه، من دون أن يكون لها أي تدخل لا بأسماء المشاركين، ولا بأجندات الاجتماعات التي حصلت، كما حصل ذلك في تشكيل كيانات عسكرية ومدنية، علمًا أنه لم يعتذر أحد من الشخصيات المشاركة في المحافل المذكورة، عمّا حصل، بالرغم من كل التذمر وكل الاعتراض على الأدوار الخارجية، الذي أبدته بعض الشخصيات، لكن الأمر لم يحصل في إطار النقد الذاتي، ولا في إطار نقد التجربة بعدم تكرارها أو بتجاوزها.

هكذا، وإضافة إلى ما تقدم، فإن هذه الشخصيات، من خلال اضطراب مواقفها وخطاباتها السياسية بين مرحلة وأخرى، وبواقع افتقاد كل واحدة منها للحد الأدنى اللازم لاحترام الآخرين، بل تعمدها إطلاق العنان لروح التشكك والاتهام، وبالنظر إلى اتكائها على تعظيم الخلافات، بدلًا من تطوير المشتركات، أسهمت في تبديد مكانتها، وتآكل صدقيتها، الفردية والجمعية، في أوساط السوريين.

القصد أنه لا بد من كسر هذا الوضع الرتيب، الذي لا يفضي إلا إلى مزيد من الفراغ والضياع، ولا بد من تخليق معادلات وعلاقات جديدة في أوساط المعارضة، ولا بد من إعادة التأسيس، بعد كل الإخفاقات الحاصلة في العسكرة والمفاوضة وبناء الكيانات، وتخبط الخطابات وعبثية الرهانات الخارجية.

لا بد من إيجاد مجموعة تدعو إلى مثل هذا الملتقى، ليس باعتباره إطارًا حزبيًا، ولا باعتباره كيانًا بديلًا أو رديفًا للكيانات القائمة، ولا باعتباره منصّة من المنصات، وإنما باعتباره منبرًا يحاول أن يعبر عن أغلبية السوريين، وعن توقهم للحرية والمواطنة والكرامة والعدالة والديمقراطية، من دون أي اعتبارات أو انحيازات سلطوية، ومن دون أي ارتهانات خارجية. هذا الملتقى، أو المنبر، من المفترض أن يساهم في قول ما ينبغي قوله للمعارضة، بكل كياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، من دون أي حسابات فئوية ضيقة، ومطلوب منه ترشيد خياراتها، ومراقبة ومراجعة ونقد سياساتها، ومواقفها، وممارساتها، وجسر الفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.

باختصار؛ المطلوب هو ملتقى يدعو له السوريون أنفسهم، ويحددوا هم أسماء ونوعية المشاركين فيه، ويتحكموا هم بأجندته، وبنتائجه، ملتقى يعلنها واضحة وحاسمة أن كفى عبثًا وتلاعبًا وتدخلًا بثورتنا وبخياراتنا وبكياناتنا وبمصيرنا.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون