نحو هيكلة جديدة للعلاقات الدولية



أُنشِئت منظمة الأمم المتحدة عام 1945، على أنقاض عصبة الأمم، المتعثرة منذ تشكلها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1919. حملت الأمم المتحدة منذ نشأتها نقطة ضعفها المتمثلة باحتكار مجلسها الأمني من قبل الدول الأربع المنتصرة في الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، من جهة، وامتلاك كل من هذه الدول حق النقض-الفيتو، لوقف أي قرار لا يتوافق مع مصالحها، من جهة ثانية.

من هنا؛ نستنتج صعوبة الاتفاق على أي قضية دولية من قبل جميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، حتى لو لم يكن ثمة شكّ في عدالتها، وأن حق النقض هو بالأساس لخدمة مصالح الدول التي تمتلكه، وحلفائها ضمنًا، من دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى. أما قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير الملزمة، فتبقى ذات طابع أخلاقي، مثل التصويت الأخير على رفض اعتبار القدس عاصمة لـ “إسرائيل”، وهي محدودة الفاعلية على المستويين: السياسي والإجرائي.

حتى تاريخ اليوم، استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو 79 مرة، منها 43 مرة لصالح “إسرائيل”، واستخدمه الاتحاد السوفييتي ووريثته روسيا 107 مرات، وبريطانيا 29 مرة، وفرنسا 16 مرة، والصين 11 مرة، بعد أن أصبحت هذه الدولة، وهي الأكبرُ في العالم من حيث عدد السكان، عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، منذ عام 1971، حين حلت مكان الصين الوطنية-تايوان، كممثل للصينيين في الأمم المتحدة.

الحق المطلق لعدة دول بالتحكم بقضايا العالم، مهما بلغت عظمتها، أمرٌ لا يمكن أن يتوافق مع الحد الأدنى من العدالة الدولية، طالما تستطيع واحدة منها فقط تعطيل أي قرار. لقد تجاوز الزمن صيغةَ مجلس الأمن، كمفرز للحرب العالمية الثانية، حيث فرض المنتصرون أنفسهم على العالم، واحتكروا حق التحكم بمصيره. أما التعديل الأهم الذي حصل في المجلس، من خلال زيادة أعضائه إلى 15 دولة، وانتخاب 10 منها دوريًا من بين الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لمدة سنتين، فلا يعدُّ تعديلًا جوهريًا، ما دام للدول الخمس دائمة العضوية حق الاعتراض.

لقد باتت الأمم المتحدة ومجلسها الأمني عاجزين عن تسوية الخلافات، حتى بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فضلًا عن معالجة القضايا الدولية والكونية الملحة، وصار التعطيل (ومن باب النكاية أحيانًا) هو ما يسم نشاط المجلس، بخاصة بين الولايات المتحدة وروسيا؛ ما يذكّر بسنوات الحرب الباردة الثقيلة بين الدول الغربية والمنظومة السوفيتية وآثارها في مختلف أنحاء العالم، والانقسام الكوري ما زال خير شاهد.

“الحرب الباردة” الحالية اتضحت خلال المسألة السورية، حيث أرادت روسيا فرض نفسها كقطب جديد على الساحة الدولية، متسلّحةً ببقايا ترسانتها النووية وطموحاتها الإمبراطورية “البوتينية” الجديدة. أفضى ذلك -لسوء حظنا التاريخي- إلى صراعٍ مضبوط بين القوتين، لكنه مدمّر لبلدنا، فمن خلال استمرار المأساة السورية واللعب بأوراقها؛ تأمل كلّ من روسيا وأميركا حل معظم خلافاتهما، بما فيها القضايا العالقة في شرق أوروبا. بهذا الصدد، نذكِّر باستخدام روسيا لحق النقض 11 مرة، منذ عام 2011، وبمشاركة الصين في بعضها، لتعطيل مشاريع قرارات مجلس الأمن المتعلقة بسورية.

لا ينفصم عجز الأمم المتحدة عن عنجهية الدول العظمى منفردةً، فمن المؤسف أن يصل الرئيس المنتخب للولايات المتحدة، الدولة الأعظم في العالم، إلى هذا المستوى من التعاطي السياسي، ويقرّ بأنّ القدس عاصمة لـ “إسرائيل”، على الرغم من مخالفة ذلك للقانون والشرعية الدوليتين. كما ردّت مندوبة أميركا في الأمم المتحدة على المصوتين بأغلبية كبيرة ضد هذا القرار الأميركي، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالتهديد والوعيد، والتلميح بقطع المساعدات المالية عن الدول التي صوتت لصالح القرار، وهي 128 دولة، ثم أكمل نتنياهو هذه “البلطجية” بقوله: إنّ الأمم المتحدة هي “بيت الأكاذيب”، متجاهلًا الوضع الدولي المعترف به بخصوص مدينة القدس! لكم تبدو مثل هذه التهديدات الأميركية بائسة سياسيًا، وبراغماتيًا، وتضع هيبة بلد الحرية الأول في العالم، على المحكّ.

تذكّر تصرفات الرئيس الأميركي الحالي بما فعله الرئيس السوفيتي خروتشوف عام 1960، حين ضرب بحذائه على الطاولة، أو رفعه في وجه المجتمعين، ردًا على انتقادات رئيس الوفد الفلبيني للسياسات السوفيتية في دول شرق أوروبا. لقد أصبح سلوك الدولتين الأكثر نفوذًا في مجلس الأمن، أميركا وروسيا، تعسفيًا إلى درجة عالية، ويعزز من تبني مثل هذه السلوكيات من قبل الأنظمة المستبدة وفلولها على مستوى العالم.

كيف يمكن تصور البديل الممكن لهذا الاستعصاء المتفاقم في عمل الأمم المتحدة، من أجل القيام بالدور المناط بها في ضبط الصراعات والمصالح الدولية؟ إذا وضعنا جانبًا الترتيبات القانونية المتروكة لذوي الاختصاص؛ فلا بدّ من إعادة صياغة سياسية جذرية للعلاقات الدولية القائمة في هذه المنظمة الدولية الأهم، بخاصة في مجلسها الأمني، وبما يتوافق مع التطورات الكبيرة في مراكز القوى العالمية في الوقت الحاضر، فضلًا عن تفعيل مفاهيم العدالة الدولية وحقوق الإنسان من جديد، لأنّ الصيغة السياسية الحالية لمجلس الأمن باتت بائسة وغير معقولة، لجهة قيام الأمم المتحدة بمهماتها الجسيمة في فض النزاعات، ومعالجة القضايا الملحة على مستوى العالم، كقضايا المناخ والبيئة، وربما مستقبل الكرة الأرضية ذاته.

لقد ساهمت صيغة مجلس الأمن الحالية، في ضبط الصراعات في أيام الحرب الباردة، وحافظت على نوع من “الستاتيكو” الدولي، لكن انهيار الاتحاد السوفيتي، والدخول في عصر العولمة وثورة الاتصالات، يفترض أن يكون هناك تنظيم قانوني جديد على مستوى العالم، وتعديل جوهري لدور الأمم المتحدة، في وقت صارت فيه مصالح العالم مترابطة، كما لم تكن في أي وقت مضى. لا يكفي بهذا الخصوص توسيع مجلس الأمن، إنما بات إلغاء حق النقض أمرًا لا مهرب منه، علاوة على ضرورة إدخال دول جديدة وأكثر حيادية كأعضاء دائمين فيه، وإيجاد الصيغة القانونية المناسبة، ليقوم المجلس بدوره على نحوٍ أفضل.

البديل عن ذلك قد يكون تفكك الأمم المتحدة، وربما مجلس الأمن ذاته، فضلًا عن نشوء تحالفات جديدة لتبادل المصالح، ما يشتت الجهود الدولية، ويزيد من حدة التنافس والتناقض بين الدول، وهذا ما سينعكس أيضًا على الدول الأضعف والأفقر، ومنه زيادة سطوة الأنظمة المستبدة والإقلال من فرص تحقيق الديمقراطية على مستوى العالم.


منير شحود


المصدر
جيرون