قصاصة رُميت على عجل

27 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
7 minutes

[ad_1]

أن تقودكَ الحافلة صباحًا إلى آخر محطة، عندما يتوجبُ عليك أن تسقط منها كورقة نقديّة، كما الآخرين، لقد وصلتَ واكتملتْ طريقك، عليكَ أن تصل وحسبْ، مثل أن تتفقد ساعة يدك.

الخبز.. الطريق.. الهواء.. الخطوات.. حتى الكلمات التي تقولها المذيعة في الراديو هذا الصباح، عليها أن تجد نفقًا ممرًا جسرًا للوصول رغمًا عنك إلى أيّ مكان، أيّ فراغ.. هذا بالضبط ما كانت تقوله الزهرة العابسة بين حاجبي السائق.

تستلقي الدوائر المشبعة بثلج الماضي فوق جسدكَ، يطلعُ من قلبك خاتمٌ وكتاب، تشير الهاوية بعصاها إلى حدودكَ التي اجتزتها، فتختبئ في إحدى الدوائر، الخوف يقودكَ إلى الكسل، الكسل يلفُّ لحاءه فوق ساقيك الباردتين ويُطعم كلبك، كلبك المستلقي في دائرة صغيرة من تلك الدوائر على شكل دمعةٍ رُسِمت على عجلٍ بقلم رصاص.

إلى أين يقود هذا القطار؟

إلى الغياب.

لا بد من التغيير، أن تكسر ظل السوناتة برقصة جديدة، أن تشمّر عن ذراعيك، وتعيد الثمرة الهلامية إلى شرودها، عندما يصبح للصبر بيت يعمّر ويصير شوكة.

تغدو النظّارة الشمسيّة الحالكة كاميرا، عندما تنظر من خلالها إلى الآخرين. لونكَ المفضل في التصوير يقيسُ بسعادة تفاصيل الآخرين الرتيبة. الغرباء يدخلون بصمت في مرحك الطارئ.

وجهَتكَ التي تحاول أن تقنعها بالجدوى والبقاء وأسماك الأفق، لا تسألها لمجرد أنها هجرتكَ وغادرتكَ وحيدةً منتصف الليل، كيف أنجبت أطفالًا وسكنت قرب الشاطئ؟!

الريح بين أقدام المارة، قطةٌ رماديّة.

العزلة هي النشوة الأخيرة.

أن تتمدد أصابع فوق جسدك، أن تحيا تفاصيل لحمك بعيدًا عنك، أن تبيع زمرة دمك لبداية مشوقة تطلُّ من نافذة جارتكَ، ويوم ميلادك أن يكتسب علامةً مميزةً أخرى في عنقكَ، ستغبّ ضعفَ الماء الذي اعتدت أن تشربه يوميًا، وتشتهي صحنَ حساءٍ إضافيًا ظهرًا، وفنجانًا من الشاي الأخضر مساء، عندما تعود من الداخل إلى الحياة، أنت كسول، أنت محبط، أنت جائع، أنت لست أنت.

التجاعيد وجدَتْ أخيرًا وجهها على صفحة النهر، كانت قد أضاعته منذ سنين طويلة، لكن وجهها لم يتعرف إليها، اهتز الخريف فجأةً فوق صفحة النهر، ومشى الوجه طافيًا، تساءلت التجاعيد على الضفة:

آه، ذاك العمر اللعين لم يشعر للحظة واحدة أنه كان يملك عينين عسليتين.

تمسك المرأة يد ابنتها وتقطع الشارع.. يمسك الرجل يد حبيبته ويقطع الشارع.. يمسك المشردون حفنةً من الهواء، يغمضون أعينهم ويقطعون الشارع، ضوء السيارات يصدم بقوة ذيل كلب أسود، كان يقف صامتًا كتمثال.

القصاصة التي رُميت على عجل، كُتب عليها: يقول علم النفس إن واحدًا من أسباب النسيان هو عدم الاستعمال.

ليست جملةً شعريّة، لكن عجلات الباص قرأتها جيدًا وتابعت سيرها.

الزمن راقد على باب كهف مظلم، وبين قدميه يجثو ذئبُ أحمر.

الأكواخ الريفية تنسى سكانها في الشتاء، كم تبدو جميلة!

وُلِد الملل بأنفاسٍ متقطعة، حزينًا يتيمًا مسلوبًا ومستلبًا، لم تسمح له الكتب المدرسيّة بالتطور، لم يربِّ حتى ريشةً صغيرةً في إبطه لأيام البرد، أو سمومًا سوداء أسفل لسانه، تقيه من الأعداء الذين يقضون عليه ألف مرة في اليوم، لكن مع الزمهرير كله، والتأوهات والحقائب والشتائم صوب حقلهِ، المجلدات الضخمة التي كتبت في سبيل القضاء عليه والحيلولة دون أن يمس شعرةً من البيوت. تحافظُ الطبيعة على حشرات الملل وترعاها، ويكتب الشعراء قصائدهم على ظهره كل مساء، وهم يترقبون تثاؤب القمر في الغيمة العابرة.

(كيف تجعل حياتك سعيدة!)، عنوان كتاب ناعم يتصدر واجهة إحدى المكتبات، قربه عنوان آخر يقهقه عاليًا: (حظك مع برجك).

عدد الرجال في ذاكرة امرأة عاشقة يتأرجح ككتف يغرق.

عدد الرجال في وجه امرأة تشاهد فيلمًا عن الخيانة يركب قطار التاسعة. في صندوق رسائلها لم تتلقَ رسالةً واحدةً من أي رجل، تلك المرأة الشاحبة تهذي مع نفسها فقط حول معطف أسود، جاء إلى حلمها كالسر وغاب كجنازة.

المدينة التي لا تحلم جيّدًا لا يهطل فوقها المطر.

يذهب الجميع إلى الليل، النوم يضيء البيت للأحلام، والذاكرة تعطيها قلمًا ودفترًا، وما نرويه صباحًا عن لسانها لا يغدو أن يكون مثل ظلنا، نحن لا نتذكر أي شيء، مما حدث لنومنا وبيتنا وأحلامنا، ومع هذا يتطفل العالم على قوت الأحلام؛ كلما شعر بالخوف، كلما اهتز الندم في قفصه الصدري.

تقوم النشوة على الحب، حتى لو جاء في زيٍّ غريب، في بداية مستعجلة، في صدفة عابرة، لا بدّ من أظافر تخدش الحب لوهلة وتكذب، مبررةً الفقد والضياع والفوضى والوهم، لا تحلّق النشوة حتى مع أنفسنا بعيدًا عن الحبّ، فالموضوع الملتبس علينا يغدو في النشوة عضوًا جنسيًا مغمض العينين، وفي المرآة يعبث الخيال المرتعش في نشوتنا محركًا ما نفتقده، دافعًا به إلى التشكل في الصورة التي نعشقها، ونرجف أمام فمها.

الصمت المطبق في الطبيعة قاد الموسيقى إلى السفر، صنع العشب صوته في خلوةٍ مع نفسه، الإنسان نام في الفيء مطمئنًا إلى أزيز الظهيرة المشتعل، وكانت السلالة كلّها تعي أن الطبيعة ساحرة ذكيّة، وأن في تلك الموسيقا أرواح خالدة.

غنّى الإنسان، وما زال يغني.

ماذا بعد؟

يحمل هذا السؤال صخرةً فوق ظهره، أسمع أنينها.

تتدلى من نافذة هذا السؤال مشنقةٌ تميل مع غروب الشمس.

في حنجرة هذا السؤال سيالةٌ عصبيٌّة تمضغ قلبها.

وحده الموت يمضي إلى حريّته بأسنان لبنيّة طريّة، عاريًا منك، متقدًا حرًّا وحيدًا.

سوزان علي
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون