عن المركز والأطراف والحالة السورية



في زحمة التحليلات والانتقادات والآمال المعقودة، على مصافحة ياسر عرفات ورابين، ومباركة بيل كلنتون في مدينة واشنطن، بُعيد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وانشغال وسائل الإعلام بالحدث، بين مؤيد ومعارض ومُشكّك، استضافت إحدى القنوات التلفزيونية المونتريالية القنصل الإسرائيلي في مونتريال، والناشط المغربي والسجين السياسي السابق جواد الصقلي، في حوار على الهواء، بهدف توضيح مواقف بعض الأطراف العربية والإسرائيلية، من الاتفاق المذكور أعلاه. وعلى الرغم من انخفاض طبقة الصوت والنبرة المهذبة عند الرجلين؛ فإن صَخَب الكلمات كان يدل على درجة الانفعال غير العادية عند المتحاورَين: رجل يعتقد أن الاتفاق هو تنازل كبير من قبل “إسرائيل”، من أجل “هدف نبيل” هو تحقيق السلام ومحاربة الإرهاب، ورجل يرى الاتفاق برمته انتصارًا لـ “إسرائيل”، لم تستطع تحقيقه بالقتال، فحققته من خلال بنود اتفاقية أوسلو، وفيه هدر للحقوق الفلسطينية.

قام الصحافي الذي نظّم المقابلة بتلخيص أهم ما ورد في اتفاقية أوسلو، وكان يقرأ كل بند من بنودها المهمة، ثم يوجه السؤال إلى المتحاورين، لسماع رأي كل طرف عن مضمون البند. وقد تم تلخيصها بما يلي:

تنبذ منظمة التحرير الفلسطينية الإرهاب والعنف (تمنع المقاومة المسلحة ضد إسرائيل)، وتحذف البنود التي تتعلق بها في ميثاقها، كالعمل المسلح وتدمير “إسرائيل”.

تعترف “إسرائيل” بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.

أما بقية الشروط، فتتضمن اعتراف منظمة التحرير، بدولة “إسرائيل” على 87 بالمئة من أراضي فلسطين، أي كل فلسطين ما عدا الضفة وغزة. وينص أحد البنود على انسحاب “إسرائيل” من الضفة وقطاع غزة على مراحل، وحق الفلسطينيين بإقامة حكم ذاتي دون سيادة في الضفة وغزة.

ليس هدفي استعراض بنود أوسلو، ولا عقد مقارنة مع الوضع السوري، وإنما الوصول إلى عرض الحوار غير العلني الذي جرى، بين القنصل الإسرائيلي وصديقي المغربي جواد الصقلي، وقد رواه لي في اليوم التالي. ففي إحدى الاستراحات الإعلانية، قال الإسرائيلي للمغربي: حماسك بالدفاع عن الفلسطينيين يؤكد لي نظرية “المركز والأطراف”، والتي يمكن تفسير أحد وجوهها بأن “المؤمن” كلما ابتعد مكان إقامته عن “مركز” إيمانه؛ ازداد حماسه، ودفاعه عن ذلك المركز. فكون المغرب بعيدة عن فلسطين، يفسر لي سبب حماسك ودفاعك عن الفلسطينيين، أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.

قال له جواد: على الرغم من احتجاجي الجزئي على تلك النظرية، فإنني أرى نفسي هنا متفقًا معك، لأن النظرية نفسها يمكنها أن تُفسّر لي سبب حماسك ودفاعك عن “إسرائيل”، هل تستطيع أن تنفي أنك مغربي الأصل مثلي، وهذا أعرفه من اسم عائلتك ومن لهجتك الفرنسية!

بعد ما يقارب 24 سنة على توقيع اتفاقية أوسلو وملحقاتها، وبعد القضم المستمر لأراضي فلسطين، وتدهور أوضاع الفلسطينيين، وانقساماتهم، وانتشار الفساد بين قادتهم، وتقدم “إسرائيل” المتواصل؛ وصلنا إلى إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لدولة “إسرائيل”، فعلى ماذا سيحصل السوريون، بعد المؤتمرات العديدة التي عقدها المعارضون مع أنفسهم، لأن النظام الأسدي لم يُشارك عمليًا فيها، وبخاصة بعد “جنيف” المحتضر و”سوتشي” الذي يتم تحضيره، لإعلان تعويم الأسد ومعه بعض المعارضين، ودفن الثورة السورية؟

لا أهدف إلى إجراء مقارنة بين الوضعين الفلسطيني والسوري، وإنما إلى الإشارة إلى أن مال “الداعمين” أفسد القيادات الفلسطينية أو أغلبها، وأصبح سلوك السلطة الفلسطينية أسيرَ شروط المانحين، التي هي في مجملها شروط “إسرائيل”، وأفقدها الصدقية أمام الشعب الفلسطيني، وحوّلها إلى ظاهرة صوتية فقط، بالنسبة إلى القدس وغير القدس، وهذا ما حدث مع السوريين، فوعود ما يسمى “أصدقاء الشعب السوري” أفسدت المعارضة، ودفعت بقواها إلى الكيد والتنكيل ببعضهم، وأفسدت من كان قريبًا وبعيدًا منها، في ممارسة شبيهة بممارسات الأسد مع الرموز السورية السياسية والثقافية قبل الثورة، وتحولت مكاتب المعارضة إلى فرّاخة للفساد والمحسوبية، وأصبحت رغبة البعض في حضور أي مؤتمر، وتأمين “مصروف الجيب”، أهم من القضية السورية وشهدائها. لذلك نشاهد التنقل السريع للأفراد بين الفصائل والقوى، حسب استعدادها للمشاركة في هذا المـؤتمر أو ذاك.

وكما فعل ترامب بحسم التردد الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، دون الاهتمام برأي العالم كله، وبخاصة رأي الفلسطينيين، كذلك حسم الرئيس الروسي الشك باليقين، وأبلغ المعارضين السوريين، أن الذين يرفضون رئاسة الأسد لن يكون لهم مكان في مؤتمر “سوتشي”، بغض النظر عن رأي السوريين، الذي يحاول ترويض من يرفض الخنوع منهم بقنابله وصواريخ طائراته.

مرة جديدة، تُبرهن نظرية المركز والأطراف عن فاعلية واضحة في الساحة السورية، وعلا الصراخ في وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، ولكن، هنا، بين مَن هو مستفيد، ومَن هو مستفيد أكثر من المؤتمرات، وليس بين من يؤمن بحق السوريين بالحرية والخلاص من الاستبداد، وبين داعمي الاستبداد.


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون