ماراثونات جنيف: مفاوضة أم مساومة؟



من المعروف، أن عملية التفاوض متعددة التسميات (اجتماعية، اقتصادية، سياسية، عسكرية)، عملية قديمة قدم الوجود البشري، وبخاصة عمليات التفاوض العسكرية، حيث إنها شائعة في التاريخ القديم والمعاصر، مقارنة ببقية أنواع التفاوضيات، سواء بين الدول المتجاورة في حالة الحروب والمنازعات العسكرية، أم بين أفراد المجتمع الواحد في حالة الحرب الأهلية، وهكذا شاع أسلوب المفاوضة في السلم والحرب، تاريخيًا.

بالتالي، كان من الطبيعي -من حيث المبدأ- أن تقبل قوى الثورة والمعارضة السورية بالتفاوض مع النظام السوري تحت الرعاية الأممية، للوصول إلى حلول سياسية مقبولة من غالبية الشعب السوري، وتحقق الحدود الدنيا للمطالب التي قامت من أجلها الثورة السورية.

بناء على ذلك؛ عقدت العديد من المؤتمرات للقوى السياسية السورية برعاية متعددة عربية، إقليمية، دولية، تشكلت في أثرها العديد من التيارات السياسية والأجسام الائتلافية لمواجهة النظام بوفد مفاوض معارض موحد، وبدأت ماراثونات المؤتمرات، من (جنيف 1) الذي نتج عنه ضرورة إنجاز هيئة حكم سياسي انتقالي تستبعد الأسد، ودستور جديد، ومن ثم انتخابات تعددية برلمانية ورئاسية، إلى (جنيف 8) مؤخرًا الذي انتهى بمحاضرة تدريسية للأكاديمي (الجعفري) بوفد دي ميستورا عن تاريخ سورية، وما زالت الماراثونات التفاوضية مستمرةً، وبموازاة مؤتمرات (جنيف 1 – 8)، هناك أيضًا (أستانا 1 – 7) وسوتشي في الشهر القادم، كما هو معلن له.

السؤال السياسي البسيط الذي يمكن أن يطرحه أي سوري متابع للأخبار السياسية، في نهاية عام 2017: ما المكاسب التي أنجزتها هذه المفاوضات للشعب السوري، أو لقوى الثورة والمعارضة السورية، من كل هذه الجنيفات الثمانية والأستانات؟ وماذا أنجز وفد النظام في هذه المفاوضات؟

من جهة وفد النظام السوري التفاوضي، الممثل الوحيد للاحتلال الروسي الإيراني والميليشيات المتعددة الجنسيات، لا بد من الاعتراف بخبث ودهاء هذا الوفد، حيث إن الخبراء الروس والإيرانيين في الكواليس يوجهونه بكل التفاصيل الشكلية البروتوكولية إلى القضايا السياسية الجوهرية، وإذا ما تمعّنا في كل هذه المؤتمرات؛ وجدنا استراتيجية تفاوضية واحدة مارسها وفد النظام تجاه وفد المعارضة السورية، من اليوم الأول، وهي سياسة المساومة، لا المفاوضة، فالتفاوض عملية سياسية تقوم على مبادئ وأسس لحل قضايا تنازعية بين طرفين أو أكثر، ومن ثم تتطلب العقلانية والاحترام، وينتج عنها مكاسب محددة؛ بينما المساومة هي عملية نفعية بحتة، سعى وفد النظام لتحقيق المزيد من المكاسب له، على حساب وفد قوى الثورة والمعارضة للمفاوضات، ومن ثم هي عملية أقل قيمة واحترامًا من عملية التفاوض. وقد تجسدت هذه السياسة -المساومة- من خلال سياسة التفتيت والتشتيت للمعارضة، والقضاء على أي مظهر من مظاهر تماسكها، فعمل على إيجاد العديد من المعارضات (منصة موسكو، القاهرة، الائتلاف، هيئة التنسيق، هيئة المفاوضات العليا 1 ثم 2، ومعارضة الداخل “منصة مملوك” والخارج… إلخ) وبالتالي إضاعة الوقت في إيجاد وفد موحد للمعارضة، ودب الخلافات بينهم والصراعات، بل تجنيد بعضهم للحصول على البيانات والمعلومات غير المعروفة له، وانتقل الخلاف والصراع من حقل (المعارضة – النظام) إلى حقل (المعارضة – المعارضة)، حتى وصل الأمر إلى أن يطالب قدري جميل صاحب منصة موسكو بالثلث المعطل، في وفد المعارضة في (جنيف 8). مستفيدًا من خبرة (حزب الله) في مفاوضاته الحكومية في لبنان، ولعبة الثلث المعطل، واشتراطه التخلي عن مناقشة هيئة الحكم السياسي الانتقالي دون الأسد ومقررات (جنيف 1)، بحيث كان أسديًا في وفد المعارضة للتفاوض مع وفد النظام أكثر من الجعفري في وفد النظام.

استخدم وفد النظام أيضًا سياسةَ التدمير الذاتي، التي تقوم على تدمير الوفد المعارض، من خلال أساليب وطرق مختلفة، من التشكيك في إمكانية وفد المعارضة في تحقيق الأهداف التي يطمح إلى الوصول إليها، أو الحد الأدنى منها، إضافة إلى بث روح الفرقة والأنانية، بين أعضاء الفريق المفاوض المعارض، وصرف النظر عن الطموحات والأهداف الرئيسية، والقبول بما يمكن تحقيقه باعتباره الهدف النهائي، والهروب من الأهداف الحقيقية (هيئة حكم انتقالي دون الأسد والدستور الجديد والانتخابات) إلى البحث في ملف الإغاثة للمناطق المحاصرة، والإفراج عن المعتقلين ونزع الألغام، أو قضايا الإرهاب… الخ.

إضافة إلى ممارسة سياسة التعتيم والتهميش، من خلال جعل العملية التفاوضية مجرد عملية هامشية سطحية لا تتعدى الشكلية للقضية التفاوضية، مثل ما حصل في (جنيف 8) حيث رفض وفد النظام مطلب وفد المعارضة بالجلوس، وجهًا لوجه، في غرفة واحدة، وأحدث التوتر في المفاوضات، مثل إدخال عوامل جديدة لا علاقة لها بجدول أعمال المفاوضات، عندما قدّم الجعفري رئيس وفد النظام للمفاوضات محاضرة أكاديمية أمام وفد دي ميستورا، عن تاريخ سورية السياسي والمقاوم تاريخيًا، وقضايا الإرهاب… إلخ، وهذا مؤشر على سياسة الاسترخاء التفاوضي، أي سياسة النفس الطويل، وهي عبارة عن إهمال القضايا الرئيسية للتفاوض، وتركها للزمن لحلها، أي سياسة التجميد، أي الإبقاء على الوضع الحالي على ما هو عليه، والاحتفاظ بالموقف التفاوضي القائم دون أي تغيير أو تعديل، سواء أكان سلبًا أم إيجابًا، وتجميده إلى درجة الموت نظرًا إلى عدم وجود جدوى لتحريكه أو التعامل معه من جديد بمعطيات جديدة.

وأخيرًا، كل المؤشرات السياسية على أرض الواقع العسكري والميداني في سورية تقول إن العملية التفاوضية ذاهبة باتجاه سوتشي، وإن الحل السياسي بيد روسيا، وما وفد النظام سوى موظفين دبلوماسيين لدى الدولة الروسية، ولا سيّما أن الصور التي شاهدها الجميع على شاشات التلفزيون تشير إلى أن بشار الأسد أقلّ قدرًا وقدرةً من ضابط روسي، في قاعدة حميميم العسكرية الروسية في سورية، لذلك أعتقد أنّ على القوى السياسية السورية المعارضة، الراغبة والمقتنعة حتى اليوم بالعمل السياسي التفاوضي، أن تتخذ الموقف السياسي المناسب من وفد النظام التفاوضي، بالامتناع عن اللقاء معه، وبالتالي عدم التفاوض معه، بشكل مباشر أو غير مباشر، أي الامتناع عن إعطائه صفة الشرعية في المفاوضات، وهذا يكون أول إنجاز يُسجّله وفد المعارضة للمفاوضات؛ إذا حصل، فالنظام الذي لا يقبل بتوظيف مستخدم في مؤسسة حكومية، دون موافقة عشرات الفروع الأمنية على توظيفه، لن يُقدّم أي تنازل سياسي لوفد المعارضة للمفاوضات وللشعب السوري.

في الوقت نفسه، القبول بالتفاوض مع الوفد الروسي السياسي الأصيل، كممثل لدولة الوصاية على النظام السوري، بدلًا عن وفد النظام السوري الوكيل، ولا مشكلة أن تكون المفاوضات في سوتشي أو في موسكو، المهم أن تكون المفاوضات مع صاحب القرار السياسي الأساسي، وهو الروسي، مع التمسك بمرجعية (جنيف 1) وتنفيذ القرار الأممي 2254، الذي يحظى بالدعم الإقليمي والأممي، والتاريخ أثبت نجاعة المفاوضات مع الأصيل أكثر منها مع الوكيل.


طلال المصطفى


المصدر
جيرون