حرية التعبير في موريتانيا.. كفّارة العسكر عن خطيئة الانقلابات
29 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
بقلم محمد ولد إدوم*
قبل شهر أقدمت السلطات الموريتانية على إغلاق كل القنوات الفضائية المستقلة (قنوات: المرابطون، شنقيط، الساحل، الوطنية، دافا) في سابقة هي الأولى من نوعها، منذ بدأت هذه القنوات بثّها قبل أكثر من خمس سنوات من الآن. السبب المعلن هو تراكم الضرائب على هذه القنوات حتى بلغت سقف المليارين أوقية (حوالي خمسة ملايين ونصف دولار أميركي)، وكان لا بد لسؤال تائه أن يعبر أفق المنطق والمعقول وهو: لماذا الآن تحديدًا؟ وكيف أغمضت الدولة عينيها كل هذه المدة عن الضرائب؟ وهل الضرائب فعلًا هي السبب الحقيقي؟ أم أن الحكومة ندمت ندمًا فادحًا على علو السقف؛ فأرادت أن تجعله أقلّ انخفاضًا؟
ربما يمكننا أن نلخص تاريخ تعامل الدولة مع الصحافة وتحرير الفضاء السمعي البصري وحرية التعبير عمومًا، في أن ما بني على أساس هش، سيسقط قريبًا مهما كان شكله الخارجي.
عندما أقدم دكتاتور موريتانيا المنقلِب، والمنقلَب عليه لاحقًا: معاوية ولد الطائع، على تنفيذ انقلاب 12 كانون الأول/ ديسمبر 1984 برفقة زملائه في ما عرف باللجنة العسكرية للخلاص الوطني؛ وجد نفسه بضع سنين محاصرًا من الدول الغربية، ولم يكن أمامه إلا أن يتنازل عن بعض الحريات التي احتكرتها الدولة منذ الاستقلال، 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960. وهكذا جاءت على التوالي قوانين التعددية الحزبية الصحفية 1991، وعرفت موريتانيا للمرة الأولى صحفًا مستقلة؛ ولكن الدولة ظلت تحتفظ باحتكارها المطلق للإذاعة والتلفزيون وللوكالة الموريتانية للأنباء؛ حتى جاء انقلاب جديد ولجنة عسكرية جديدة، وجدت نفسها -أيضًا- محاصرة من البنك وصندوق النقد الدوليين، ومن الحكومات الغربية المانحة، وحتى من دول الجوار، ففتش الانقلابي أوراقه القديمة، وتذكر خطة سلفه التي آتت أكلها، فأطلق هو الآخر سلسلة من التنازلات والإصلاحات، من أهمها ملف الإرث الإنساني والمبعدين الموريتانيين اللاجئين في السنغال الجار، والحديث الجاد عن العبودية وآثارها… ثم تم تحرير الفضاء السمعي البصري، وتعهد الرئيس بإلغاء وزارة الاتصال، وإنشاء سلطة عليا للصحافة والسمعيات البصرية، وشركة عمومية للبث؛ كما تعهد برفع وصاية الدولة عن التلفزيون الرسمي ومؤسسة الإذاعة والوكالة الموريتانية للأنباء.
التحريرُ إذن جاء بالدرجة الأولى نتيجةً لضغطٍ خارجي، وليس لرغبة داخلية؛ جاء كتنازلٍ (وددتُ أن أقول: كَرَشْوةٍ) من النظام الموريتاني الحاكم، من أجل الحصول على مكاسب تمويلية من المانحين الدوليين، ولتحسين صورته ووضع بعض رتوش التجميل على وجهه، وملمع الأحذية على حذائه العسكري الخشن.
موريتانيا حررت السمعي البصري فعلًا، ولكنني أعتقد أنه -فقط- نوع من ذر الرماد في العيون، فإلغاء وزارة الإعلام كان إحدى النتائج المتوقعة لهذا التحرير المزعوم… حسنًا، الدولة ألغت وزارة الإعلام؛ ولكن أذرعها ما تزال قائمة. فقط، تم استبدال اسمها وألبست لبوسًا جديدًا، وإلا؛ فماذا تفعل “إدارة الصحافة المكتوبة”، في وزارة اسمها وزارة العلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني؟ الشيء نفسه ينطبق على إدارات: الصحافة الالكترونية، تطوير السمعيات البصرية…. الخ. فضلًا عن إشراف هذه الوزارة على التلفزيون والإذاعة والوكالة الموريتانية للأنباء، بشكل مباشر، بينما يقول القانون إن هذه المؤسسات يجب أن تتحول إلى مؤسسات خدمية مستقلة، تؤدي خدمة عمومية ولا سيطرة للدولة عليها.
ومن مقتضيات قانون تحرير الفضاء السمعي البصري إنشاء “الهابا” (السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية) وهي هيئة عليا مستقلة ذات مهمة رقابية، إشرافية وتنظيمية. كان من المفترض أن تكون هذه الهيئة هي محور عملية التحرير، ولكن الذي حصل أنه تم تغييبها وتفريغها من محتواها، حتى غدت مجرد مصلحة صغيرة تابعة للحكومة، نسمع عنها فقط حين تريد الدولة معاقبة صحفي أو مؤسسة إعلامية؛ فتكون هي يدها التي تبطش بها، من بين أعضائها صحفيات فقط، والآخرون كلهم من خارج الحقل.
تحرير الفضاء السمعي البصري -في نظري- كان يجب أن يكون مسبوقًا بمجموعة من الإجراءات العملية الضرورية، أهمها على الإطلاق “قانون الإشهار”؛ لأنه في الحقيقة لا يمكن تصور إعلام مستقل دون سوق إشهارات، يمكن أن تغطي جزءًا كبيرًا من تكاليف الإنتاج والبث والإدارة.
غير أن مشروع قانون الإشهار بدأ العمل عليه منذ أقل من سنتين فقط، وما زال يترنّح في مراحل ما قبل المصادقة عليه من طرف البرلمان؛ وقد لا يرى النور مطلقًا. كما أن تشييد مدينة إعلامية متكاملة ومجهزة، سواء من طرف الحكومة أو من مستثمرٍ خاص، كان ضروريًا قبل أن توزع التراخيص للقنوات والإذاعات الحرة، لأن هذا كان سيضمن لهذه المؤسسات الإعلامية الوليدة فضاءً مؤاتيًا للعمل؛ عليها فقط أن تدفع ثمن خدمات “الأستديوهات” والمكاتب والأجهزة التي تستخدمها. ولكن أن تُمنحَ التراخيصُ لمؤسساتٍ من دون بنى تحتية، ومن دون وجود تقاليد عريقة في الإعلام الحر؛ فهذا يشبه حكمًا مسبقًا على هذه المقاولات بالفشل.
من الطبيعي، أن يتفاهم مديرو هذه القنوات مع طرفي الأزمة: “الهابا” ووزارة المالية، لإيجاد حل بموجبه تعود القنوات للبث، ولكن ذلك لن يطول في نظري إلا إذا غيّرت بعض هذه القنوات خطها التحريري؛ لأن الحكومة أرادت أن ترسل رسالة قصيرة -من خلال هذا الإجراء- وهي: أنتم مزعجون جدًا، خففوا الوطء وسيروا في محاذاة الحائط، وإلا؛ فلن نعدم سببًا “مقنعًا” لإرسالكم إلى المقابر رأسًا.
* شاعر وصحفي ومدير مشاريع ثقافية
جيرون
[sociallocker]
جيرون