فقدن أزواجهن في الحرب.. سيدات يتعرضن لانتهاك حقوقهن في إدلب*



ترفض أم محمد (46 عامًا)، وهي أم لطفلين، قرارَ (حكومة الإنقاذ) في محافظة إدلب(شمال سورية)، بإلزام كل امرأة فقدت زوجها في الحرب (أرملة)، ولجأت إلى المخيمات الحدودية، بضرورة إقامتها إلى جانب محرم (قريب لها من الدرجة الأولى مثل الأب والأخ والعم). وتصف القرار بـ “التعسفي”، مطالبة في الوقت ذاته السلطةَ صاحبة القرار، بـ “دعم النساء ممن فقدن الزوج في الحرب، من خلال إقامة مشاريع تنموية لهم، عوضًا عن ابتزازهن والتضييق عليهن”.

تتفق كثير من النسوة اللواتي فقدن أزواجهن، ويقمن في إدلب، على رفض قرار (حكومة الإنقاذ) الذي يلزمهن بالإقامة مع (محرم)، وقد هددت مسؤولة في مخيم (الريح المرسلة) للأرامل، بتجمع مخيمات أطمة (في ريف المحافظة الشمالي)، في وقت سابق، بـ “اللجوء إلى التظاهر، في حال أصرت (الإنقاذ) على تطبيق القرار”، وأشارت إلى “وجود رفض عام للقرار من قبل جميع النسوة في المخيم”.

أحد مخيمات أطمة

أصدرت (حكومة الإنقاذ) في محافظة إدلب، التي تتهم بأنها الذراع التنفيذي لـ (هيئة تحرير الشام)، جبهة النصرة سابقًا، تعميمًا في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2017، يقضي بـ “إلزام كل أرملة بالسكن مع محرم شرعي لها، أو بجانبه، وذلك من خلال انتقالها إلى مكان إقامته، أو نقله حسب الإمكانات المتاحة”، بذريعة “المحافظة عليهن، وصونهن من أحاديث الناس”.

عانت (أم محمد) من فقد الزوج والأولاد، ومن حرارة الصيف وبرد الشتاء، في رحلة نزوحها من مدينة حلب إلى مخيم أطمة بريف إدلب، حيث تروي قصتها لـ (جيرون)، ودموعها تخالط تجاعيد وجهها الذي حفرت فيه السنون الماضية، وكأن عمرها 100 سنة، قائلة: “كنت أقيم في حي السكري، وفي عام 2014، استهدف طيران النظام منزلنا؛ ما أدى إلى استشهاد زوجي، وتدمر المنزل بشكل كلي.. دفنت زوجي، في حديقة الحي، ونزحت مع أطفالي الخمسة، إلى مدينة الأتارب بريف حلب الغربي”.

تتنهد أم محمد قليلًا، وتتابع حديثها لنا: “في منتصف عام 2016، استُهدفت مدينة الأتارب، بقصف جوي من طيران النظام؛ أدى إلى مقتل ثلاثة من أطفالي (تراوح أعمارهم ما بين 6- 10 أعوام)، فيما سلّم الله ابنتي الصغيرة سارة (8 أعوام)، وأضعت ابني البكر محمد، (14 عامًا)..  دفنت أبنائي الثلاثة في مقبرة المدينة، وبعد يوم من القصف، وجدت (محمد) في أحد المشافي القريبة.. وجدته بلا قدم.. بقيت قدمه تحت ركام منزلنا المستأجر في الأتارب”.

تضيف أم محمد، ودمع عينيها يُجاري كلماتها: “لم أكن أدري حينئذ إلى أين أتوجه، وإلى أين ستأخذني الأقدار مع ابني الذي فقد قدمه، وهي ملفوفة بضماد طبي، وابنتي الصغرى التي لا تفارق الدموع عينيها.. لتسوقنا الأقدار، في يوم صيفي شديد الحرارة، إلى مخيم في أطمة. في المخيم، حصلت في البداية على (شادر)، نصبته على شجرة زيتون، كي أقي أبنائي حر الصيف.. على الرغم من صعوبة الوضع في ذلك الحين، لكنني أحمد الله أنني حصلت على مساعدة جمعية خيرية، قامت بتركيب قدم صناعية لابني”.

تحصل أم محمد، بعد إقامتها تحت شجرة زيتون، على غرفة إسمنتية في مخيم أنشئ للنسوة اللواتي فقدن أزواجهن في الحرب، وتقيم فيها مع طفلتها الصغيرة، وابنها الذي يحاول بيع (أكلات أطفال)، على صندوق خشبي أمام فناء الغرفة، وغالبًا، ما يختلط تراب المخيم في الصيف، وطينه في الشتاء، مع النقود القليلة البالية التي يجنيها من عملية البيع.

“يا بني، كانت الرحلة صعبة للغاية، هذه التجاعيد لم تأت من فراغ، وعيوني لا تتوقف عن البكاء بلا سبب.. لقد فقدتُ مهجة الفؤاد.. لقد ذهب الأحبة، وذهبت كل الذكريات معهم.. لكن، ماذا عسانا أن نقول أو نفعل! الحمد لله على كل حال.. هذا قدرنا في هذه الحياة، ومن يستمع لمصائب الناس هنا؛ تهن عليه مصيبته”، هكذا تصف أم محمد جزءًا من واقعٍ كابدته، خلال مشوار نزوحها، وتنفث زفرات قهر متتالية، مصحوبة بدموع حارة، وهي تقول: “فليدعونا وشأننا إلى أين نذهب.. هم ليسوا أوصياء علينا”، في إشارة إلى قرار حكومة (الإنقاذ) حول وجوب وجود (محرم) إلى جانب من فقدت زوجها.

ما تتعرض له أم محمد، ومئات النسوة في الداخل السوري، يشكل انتهاكًا صريحًا، للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص في المادة 12 على أنه “لا يجوز تعريضُ أحد لتدخُل تعسُفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمسُ شرفه وسمعته، ولكلِ شخص حقٌ في أن يحميه القانونُ من مثل ذلك التدخُل أو تلك الحملات”.

تعتبر أليس مفرج، الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، قرارَ حكومة الإنقاذ في هذا الإطار، “قرار سلطة الأمر الواقع”، وتقول لـ (جيرون): إن “القرار يعود بنا إلى عصور ما قبل الدولة الوطنية، إلى العصور التي تعتمد الثقافة المجتمعية التقليدية مرجعًا، بينما حقوق النساء الإنسانية هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان الذي يفترض احترام المرأة”.

وتضيف: “لا يجوز الانتقاص من قدر المرأة ووصفها بأنها ليست كاملة الأهلية، وغير موثوق بها. كيف يصل الأمر بسلطة الأمر الواقع، إلى تشريع وجود (محرم) يرافقها!! إنه تخلف واضح، وتكريس لتبعية النساء على أنهن ملحق لا قيمة له.. القرار صادر عن جهة بلطجية”.

أُعلن عن تشكيل (حكومة الإنقاذ) في محافظة إدلب، التي يرأسها الدكتور محمد الشيخ، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وهي ائتلاف عددٍ من الأكاديميين المتهمين بقربهم من (هيئة تحرير الشام)، حيث باتت تعرف بـ (الذراع المدني للهيئة).

لا تعرف أم محمد وجهتها القادمة، في حال نفذت (الإنقاذ) قرارها، لكنها تؤكد “عدم الرحيل من المخيم، مهما كانت الضغوطات”، وتقول: “لن أخرج من المخيم.. إلى أين أذهب.. لا يوجد أي قريب لي هنا.. لا بدائل لدي.. المخيم يوفر لي الحد الأدنى من مقومات الحياة، أسكن في غرفة إسمنتية، وأحصل على مساعدات غذائية شهرية، على الرغم من قلتها.. لكن الرمد أفضل من العمى.. لن أخرج من المخيم.. لن أخرج”.

*أنتجت هذه القصة الصحافية، بدعم من منظمة (صحافيون من أجل حقوق الإنسان) الكندية، وصندوق الأمم المتحدة للديمقراطية.


منار عبد الرزاق


المصدر
جيرون