من ثورة شعب إلى جيوبليتيك سوري



لم يأتِ التدخل العسكري الروسي في سورية، في سياق هزيمة ثورة أو مناصرة نظام، إنما ورد ضمن سياق اختراق الحصار الغربي المفروض على موسكو، بسبب أوكرانيا، وسحب فتيل الصراع البارد مع الغرب، من تخومها إلى ساحة نائية مكشوفة، تتداخل فيها المصالح الدولية والإقليمية. ولم يقلق هذا التدخل الشيطان الأعظم الذي وجد في انزلاق الدب الروسي في الوحول السورية فرصةً لإدارة الأزمة من خارجها، وتحميل أعبائها، من الڤيتو حتى المصالح الجيوسياسية، للروسي المتغطرس، وفي الوقت ذاته تصفية الحسابات المفتوحة في حينها، وبمقتضاها، مع الإيراني الغارق في المستنقع، وهو يبتهج بـ “نصر إلهي” على الثورة، فالشيطان الأعظم لن يجد أفضل من الساحة السورية لحربه ضد الإرهاب الشيعي، بعد إعلان النصر على الإرهاب السني، وإبقاء المنطقة ساحة صراع مفتوحة إلى أجل غير مسمى.

في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الجيوسياسي الإقليمي-الدولي على الساحة السورية، خرجت مفاوضات أستانا عن مسار مفاوضات جنيف، في الظاهر ليس كبديل لها، لكن في الخفاء ربما هي رغبة روسية-إيرانية-تركية؛ من أجل التفرد بالحل السياسي للقضية السورية، من قبيل الضغط على الإدارة الأميركية، في ملفات المنطقة من أوكرانيا والقرم، إلى الاتفاق النووي حتى القضية الكردية. في المقابل، لم تكترث الإدارة الأميركية الجديدة لمسار أستانا إلا بالقدر الذي يؤمّن مصالحها شرق الفرات، ومصالح “إسرائيل” على تخوم هضبة الجولان المحتلة، والمنطقتان -من الناحية الجيوسياسية- هما ربط نزاع، بين التركي والكردي في الشمال السوري، وبين الإيراني والإسرائيلي في الجنوب، يستطيع الروسي أن يلعب فيهما دور الوسيط المقبول من جميع أطراف النزاع؛ لأنه وثيق الصلة بها كلها على خلاف الأميركي الذي هبطت أسهمه، نتيجة مواقفه من الانقلاب التركي والاستفتاء الكردي والاتفاق النووي الإيراني. وفي هذا السياق، يأتي إعلان ترامب عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، ونقل سفارتها من تل أبيب إليها، كردة فعل، تكشف ظهر كل من روسيا وتركيا تجاه “إسرائيل”، وتعيد خلط أوراق اللعبة الدولية على الطاولة السورية. وقد جاء تفشيل الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بقبة باط أميركية، مع إعلان موعد مؤتمر سوتشي، نهاية الشهر الأول من السنة الجديدة الذي تصرّ روسيا على تعريفه بـ “مؤتمر الشعوب السورية”، كناية عن رغبتها بفرض شكل ما للحل السياسي يكون أقرب للفدرالية الروسية، مع إعادة إنتاج النظام السياسي القائم على الطريقة الروسية، وبالرتوش ذاتها التي تجعله مقبولًا، داخليًا، عند النظام وعند أوساط معينة في المعارضة السورية، وخارجيًا، عند جميع اللاعبين من عرب وعجم. إن الولايات المتحدة الأميركية تتفهم نيّات روسيا، وتجاريها في اللعبة مؤقتًا، حتى تأخذ في سورية من حساب روسيا غير آبهة بدعواتها المتكررة عن عدم شرعية الوجود العسكري الأميركي على الأرض السورية.

في الظاهر، يبدو أن روسيا، من خلال لقاء السوريين المشاركين في سوتشي، تحافظ على وحدة سورية، لكن في واقع الأمر كل لاعب خارجي سيمارس دور الانتداب على فدراليته؛ إذ إن نظرة واقعية إلى خارطة الميدان تفضح -من دون أدنى شك- خارطة الفدراليات التي سترسم الحدود الجيوسياسية الداخلية، بالتماس والتماهي مع الحدود الجيوسياسية الخارجية، والتي قد تمتد إلى عقود إضافية من الزمن، لم تكن في حسبان أطفال درعا، يومَ كتبوا على جدران مدرستهم للحرية.

إن الشعب السوري الذي يراد فدرلته، شعوبًا وقبائل في وجه بعضها البعض، هو الآن أحوج من أي وقت مضى إلى وحدة وطنية جامعة، للخروج من محنته، ومواجهة ما يخطط لمستقبله. هذه الوحدة الوطنية لا ينتجها سوى حوار وطني جامع، لا يستبعد أحدًا من مكونات الشعب السوري وخياراته السياسية. وأي حوار لا يعترف بالحقوق والحريات الفردية والعامة، ولا ينتج انتقالًا جوهريًا من الاستبداد إلى الديمقراطية، ويحفظ وحدة البلاد أرضًا وشعبًا، ويقيم دولة المواطنة والقانون، ويؤمن المشاركة الفعالة عبر اللامركزية الإدارية الموسعة.. هو مجرد مفاوضات بين أطراف متحاربة برعاية خارجية، لا تنتج سوى تسويات مقبولة، من قبل “اللعيبة” ومفروضة على الشعب السوري.

في هذا السياق، يمكن وضع مؤتمر سوتشي الذي تعِدّ له الدول الراعية وفق أجنداتها، وليس وفق أجندة وطنية، وبالتالي؛ من غير المتوقع أن يخرج بحل نهائي للقضية السورية، بل ربما سنشاهد أكثر من سوتشي سوري في قادم الأيام، ريثما تتوافق المشيئات الدولية والإقليمية حول القضايا المتنازع عليها. من هنا؛ فإن مقاطعة مؤتمر سوتشي، في ظل الظروف السياسية الراهنة ممن يدعم الحل الوطني، هي بمثابة بطاقة مرور للحل الخارجي (اللاوطني) الذي ربما يرسم ملامح جديدة للصراع أكثر ضراوة من ذي قبل على الشعب السوري، وعوضًا عن تخوين من سيشارك في المؤتمر، لماذا لا يجري العمل على تصحيح مساره، قبل انطلاقه أو تشكيل كتلة وطنية وازنة فيه، تصحح مساراته سواء في أثنائه أو أثناء جولاته القادمة.

إن إصرار الولايات المتحدة الأميركية، منذ إدارة أوباما حتى الآن، على ملف الإرهاب أولًا كان بمثابة “مانشيت” عريض يخفي في طياته جيوبليتيك سوري مفتوح على احتمالات أكثر قساوة، لتصفية حسابات المصالح المتناقضة مع الروسي ومع الإيراني، وترتيب أوضاع جيوسياسية جديدة، في الخليج العربي والعراق ولبنان وتركيا، ستكشف عنها الأيام القادمة.

تحت هذا “المانشيت”، منذ جنيف واحد، غابت مفردة ثورة؛ لأن الشيطان الأعظم الذي وثقت به الثورة صديقًا ومؤازرًا لم تكن الثورة تعني له شيئًا! لقد هزمت الثورة من داخلها، كما هزم النظام من داخله، لأن كليهما راهن على خارجه، لإحراز انتصار بضربة قاضية غير مسموح بها من قبل حَكم اللعبة، الذي أخذ على عاتقه منذ البداية تحويل الثورة إلى جيوبليتيك لتصفية حسابات دولية وإقليمية، على حساب الشعب السوري.


مهيب صالحة


المصدر
جيرون