‘“رد القضاء” في سينما النظام’

30 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017

8 minutes

يشبه فيلم (رد القضاء) للمخرج نجدت أنزور المشادة الكلامية بين خوارزمية الواقع، وخفة المُتَخيل. باعتبار أن السينما هي استئناسُ الخيال بالواقع، ولا يمكن أن تكون سوى ذلك. لكن أنزور حاول خلال 120 دقيقة تقريبًا الخروج من مأزق توريط الأيديولوجيا بالسينما، ولم يُفلح في ذلك، وكأن الأيديولوجيا عندهُ تطلب حق اللجوء السياسي في مملكة السينما المحصنة من فتنةِ الواقع، ومن عبثهِ الحسي بالحياة المتحولة إلى رغبةٍ أو موت، وفي أحيانٍ قليلة إلى كليهما معًا، فلم ينتبه كيف أن النص المغلق الذي كتبته ديانا كمال الدين حَبَسَهُ ضمن بناءٍ مشهدي فقير، إذ وجد نفسهُ وجهًا لوجه أمام فرضية اللقطات القريبة لمشاهدٍ داخلية كثيرة، ألفت معظم فضاء الفيلم، وهذا استعاروا له مجسمًا تقريبيًا في دمشق، علهُ يحاكي النسخة الواقعية من سجن حلب المركزي، واستعانوا بمجموعة “قاطرجي”، لتكون الجهة المنتجة للفيلم بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما، حاولوا استعادة الواقع من غوايات الفرار، وإن بنسقٍ موازٍ له.

نحن نتحدث عن بناءٍ درامي، وقد تحايل على الفكرة التوثيقية للأحداث، فلم يكن توثيقًا بالمعنى الحرفي، ولا سينما عذبة كالماء، إنما قبعَ بينهما، منقادًا إلى شرط السرد الزمني الأفقي، وهذا مقتلُ النص المكتوب للسينما، حيث يختفي الأثر الحسي لمخرجات المونتاج التقنية، بما تعنيه من خواص الارتداد إلى زمانٍ أو مكانٍ آخرين، يرادفان بناء السرد الرئيسي، خلال عملية ترتيب المشاهد.

ولعل الفيلم استنتج عن قصد عنوانهُ منذ اللحظات الأولى، من المشهدِ الأول فيه، حيث أم خالد (الممثلة الأردنية جولييت عواد) تقول: لن اسأل الله أن يلطُفَ بالقضاء، بل أن يرد القضاء. الفيلم أراد إذًا أن يبتكر مقارعةً للراديكالية الدينية، منذ البداية، باعتبارها الخصم الأيديولوجي والعسكري لمقولات النظام الأبدية، ثم نجد أن هذه المقارعة تتكرر في الدقيقة 26 من الفيلم، حين نرى الملازم جعفر (الممثل لجين إسماعيل) في حوار مع السجينات، تسأله إحداهن: ألا تريد صبيةً لكي تصبرك على الحصار، فيرد: “ألستِ أنتِ التي قطعتي تبع زوجك” (يقصد العضو الذكري)، قبل أن تقتليه؟! وفي الدقيقة 74 يهرع المساجين لدى رؤيتهم للسجينات وهن يعبرن من أمامهم، الجوع للجنس يتقد حينئذ على الوجوه، ثم ينتقد أحدهم (الممثل جمال العلي) اشتهاء زميله السجين (الممثل فايز قزق)، فيقول له بالحلبية: “إيش باك عزو، ع أساس عم بوقف معك”، دلالةً على عجزه الجنسي، ثم يفتعل الفيلم مشهدًا كوميديا، حين يغني المساجين: “بكرا بيرجع بيوقف معكم، إذا مش بكرا، البعده أكيد”، محرفين كلماتِ أغنية معروفة لفيروز. وكأن فيلم أنزور هذا لم تعالجه يد الرقيب السوري أو مقصه، وكأن السينما السورية باتت تعيشُ في بلدٍ حر غير سورية التي نعرف؛ إذ إن الفيلم عبَرَ من دون أن يُمزق، أو يُقتطعُ بعضٌ منه، كما لو أنه غافلَ حصافةَ الرقابة السورية، خلال زمن البعث المتشدد، ونجا. لكن السياسة تتجاوز فكرة الرقيب متى أرادوا ذلك، فهذا فيلمٌ يقارع الفكر السلفي، لذا يمر مثل حكمةٍ غيبيةٍ منزلة، ويقدم شخصياتٍ تعكس التنوع الإثني، والديني في سورية، حيث يظهر المسيحي، والدرزي، والأرمني، ونسمع في حواراته اللهجة الساحلية، والجبلية، والحورانية، في استحضارٍ ممجوج لمقولة “كل السوريين صف واحدٌ في مواجهة الفكرة السلفية”.

ثم تطل الموسيقى التصويرية (ألفها فراس هزيم)، كفقاعاتٍ غير مرئية، تحرس الأبعاد الميكانيكية لبعض اللحظات خشيةً من فرارها، مثل المشهد الذي أعقب انفجار سيارةٍ مفخخة عند مدخل السجن، أو حين التحضير لدفن ثلاثة من قوات الأمن، تلك الموسيقى التي يصر أنزور على اقتنائها في كل أعماله، فلا فرق لديه بين السينما والتلفزيون، كلاهما يعزفان على الوتر نفسه. كما أصرّ الفيلم على استثمار فكرة المستشفى داخل السجن، بمكوناته الشحيحة من المستلزمات الطبية، ومن أوجاع المصابين، ومن طبيبه المنهك (الممثل عامر علي) إلى أقصى استثمار؛ إذ تدور الكاميرا وتعود إلى المستشفى، حين إصابة عنبر السجناء بقنبلة فوسفورية، أو حين الاضطرار إلى تعقيم الجروح بالماء والملح، واستخدام الفوط النسائية بدلًا من الشاش الطبي.

ثم يشير الفيلم إلى الاستعصاء، كواقعة توثيقية، تلك التي قام بها أحد أجنحة السجن، ويفسر كيف أن فساد بعض المسؤولين الحكوميين هناك سمح بإدخال الهواتف النقالة، والكمبيوترات المحمولة إلى المساجين الإسلاميين، ومن خلالها تمكنوا من التواصل مع المعارضة الإسلامية المسلحة، حين كانت تحاصر سجن حلب المركزي.

لم تتنازل مقولات الفيلم الأيديولوجية لصالح الإتحاف السينمائي بشيء، ظلت كأنها تحتكر المعرفة ضمن خط درامي ساذج؛ حيث (أم خالد) تريد معرفة مصير أولادها من خطوط كفها، وأحدهم كان حاتم عرب (الممثل مجد فضة) الضابط في سجن حلب المركزي، الذي يعد والدته بأن يظل حيًّا، ويعود للزواج من سمر. فالفيلم يراوح داخل هذا المسار المقفل، بين إنقاذ يدٍ من البتر، وقصف المعارضة المسلحة للسجن تتقدم الحبكة المتوقعة، كأنها تثاؤبٌ لا نهائي، وضجر، وهي تلاحق الفكرة الأساسية “حصار السجن” بتبعاتها من نقص الطعام والأدوية، من دون أن تتجرأ على إنجاز توثيقٍ دقيق وموضوعي، فكأس الطحين الذي تم توزيعه لمرةٍ واحدة، في مشهدٍ واحدٍ فقط، كان غذاء السجناء الوحيد لأشهرٍ طويلة، ولم يذكر الفيلم الصفقة التي سمحت بإخراج مجموعة من السجناء، مقابل إدخال مساعدات غذائية عن طريق الهلال الأحمر السوري، بل اختارت أن تكون مقاربة درامية لذاك الواقع، ما أقحم الكاميرا في بناءٍ بصري مضجر لمشاهدٍ مجزأة إلى لقطاتٍ كثيرة، وحرم أنزور من استخدام الكاميرا المحمولة على “الشاريو”، تلك التي يعشق استخدامها في مسلسلات الفانتازيا التاريخية التي أذاعت شهرته، في عهد شركة الشام الدولية للإنتاج التلفزيوني والسينمائي، التي كان يملكها جمال عبد الحليم خدام.

وحتى لا يُتهم العمل بأنه أحد التجليات المرئية لهواجس النظام، فقد قدم لنا على مضض شخصيةً فاسدةً واحدة لأحد ضباط سجن حلب، حيث النموذج التقليدي لضابط الشرطة المرتشي، البذيء، والمكروه من السجناء، ومن زملائه على السواء، ويظل مصيره ملتبسًا حتى النهاية، فيما ينجو الملازم حاتم من الموت، كما وعد أمه، بعد استعادة الجيش النظامي سيطرته على السجن، وينتهي الخط الدرامي للفيلم بموت خطيبته “سمر” -أثناء زفافها إلى غيره- بطلقات نارية من سلفيين دخلوا المنطقة، ثم بإعدام عائلته شنقًا من قبل أحد الفصائل الإسلامية في قلعة الحصن، فلم تبارح فرضية الموت مجمل السرد السينمائي، حتى إن المشاهد الخارجية جاءت كوادرها ملطخة بالدماء، فلم تكن نوافذ تفتحها عتمةُ المشاهد الداخلية الكثيرة، لتتخلص من قلق الصورة، ومن حيرة الموت المتربص داخلها. دماءٌ في الداخل، ودماءٌ في الخارج، وموتٌ يسترسل بين موجودات الفيلم الحية، وكأنه وحيٌ لا ينقطع.

أيمن الشوفي
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون