التضليل المبرمج.. صدمة السياسة والاقتصاد في سورية
31 ديسمبر، 2017
تمسكت سياسة الترقيع التي انتهجها نظام الأسد، بالكذب، وكأنه فضيلة. واستعانت حكوماته -في بياناتها- بنصوص وعبارات مضللة، أغرقت الشعب بأحلام، وجعلته يقتات منها فترات طويلة. وخلال الحرب الراهنة، لم تخجل حكومته، من تعزيز هذا الأسلوب، وممارسته على نطاق واسع، بالرغم مما سببته آلتها العسكرية من كوارث بشرية وإنسانية واقتصادية.
كان من ضمن الشواغل الرئيسة، لنظام شمولي أحادي، أن يحكم البلاد بمقتضى هذا النمط، وأن يتمسك به حتى في أكثر الظروف حاجة إلى المكاشفة الصريحة، والشفافية، وإيضاح الحقائق، لكن المعلومة المضللة تخضع على الدوام لهدف سياسي. وتكشف ديمومة هذا النهج وجود فجوة عميقة، لا على مستوى الحوكمة التي تفتقر إليها البلاد فحسب، بل على مستوى علاقة السلطة بمواطنيها. وهي علاقة سلبية، كانت تفتقر في شتى مراحلها إلى الرشد والوضوح والمساءلة.
في حلقات متواصلة، عززت الحكومات سياسة التضليل، واستفادت منها في إثبات ولائها للقائد الأب، ومن بعده للقائد الابن، أي للنظام العائلي برمته. وقدّمت خدمة مبرمجة، عندما صدّرت صورة محسنة لأداء الاقتصاد، مقرونة بشعارات تَعِدُ -كما هي العادة- بقاعدة اقتصادية متينة، وتنمية متواصلة، ونمو تطول مفاعيله جوانب الحياة بأبعادها المتعددة.
تكشف المكابرة على الفشل تضخم نظرة الاستعلاء، لدى نظام ما انفكت قوته التدميرية تزداد تجاه مواطنيه. فحين كانت الطائرات تقصف المدنيين في المدن والقرى والمزارع الآمنة؛ كان رأس السلطة، في مفارقة واضحة، يبدي اهتمامًا خاصًا بخيارات الشعب، والحداثة، والارتقاء بجودة الحياة، وبالمستقبل الذي سيزدهر على وقع مؤشرات وأرقام إنتاجية واستثمارية وتنموية ونقدية، لم يكن يعززها في الواقع أي رصيد، يمكن للمتابع أن يتلمس جوانبه في الحياة العامة.
قدم التضليل -من حيث النتيجة- ما يشبه الحكايات التي تنسجها المخيلة. وكان من الصعب أن يقتنع الناس -كما يريد الأسد- بأن البلد الذي يعاني فعليًا من انعدام الأمن بشقيه السياسي والاقتصادي، ما زال يقف على قدميه! فبعد سيل من التجارب السياسية والاقتصادية والأمنية المرة، وآخرها تجربته مع الاحتجاجات السلمية؛ انقطعت شعرة معاوية، التي ربطت ما بين قطبين متنافرين، يُكنّ أحدهما العداء للآخر.
كما تَكشَّفت سياسة الخداع التي امتدت زهاء نصف قرن، وفقدت جدواها، ليس بالنسبة إلى من يعدّهم الأسد -بحكم نهجه الطائفي- خصومَه، بل حتى بالنسبة إلى من هم داخل عرينه الموالي. فهناك أعضاء في حكومات اختارها بنفسه يشعرون اليوم بعقم وهشاشة تلك السياسة، وبالغضاضة مما تروج له، خصوصًا على مستوى واقع الاقتصاد وقياس معيشة الناس المنهارة، وفق المؤشرات العالمية.
ففي شهر آب/ أغسطس الماضي، سرّبت حكومة “خميس” حصيلةً تسويقيةً، في ختام دورة معرض دمشق الدولي، من ضمنها عقود تصدير بضائع، ومنتجات محلية الصنع، تبلغ قيمتها نحو 10 مليارات دولار. وفي اليوم التالي، كتب نضال الشعار (وزير اقتصاد سابق)، باللغة المحكية متهكمًا على الرقم: “شي عشرين معرض من هذا النوع، وتصبح سورية من العشرين الأوائل في العالم، وهي شغلة سهلة، طالما عندنا ما يقرب من مليون زائر في اليوم الأول!”.
وعلى غراره، تحدث حسن حجازي (وزير عمل سابق)، حول اتجاهات حكومة الأسد المضللة، في ما يخص اهتمامها برواتب وأجور العاملين في الدولة: “لقد تم تشكيل مجلس أعلى لتحديد الرواتب والأجور، غير أنه لم يعقد أي اجتماع، وفي كل مرة نطالبه؛ يأتي الجواب لا داعي لعقد هذا الاجتماع”.
وتبرز في الإطار ذاته، تصريحات مماثلة، تسوق هي الأخرى دلائل ومعطيات تنم، ولو بأسلوب نقدي متهكم، عن شعور متزايد بالقلق، مما صنعه الأسد وفريقه بسورية، وتأثيره على مستقبل جيل كامل.
إن تغير المزاج “الموالي”، ولو كان نسبيًا، يعود إلى تحديات تزداد حدة، ربما يأتي في مقدمتها، تواصل هذه السياسة مقابل ضخامة الكارثة، وصدمة الخراب في بيئة متحضرة متمدينة. علاوة على استفحال تحديات اقتصادية ومعيشية، امتدت تداعياتها إلى بيوت الناس، وقلبت حياة السكان اليومية رأسًا على عقب.
في أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي، أجرت صحيفة حكومية تعود للنظام استبيانًا حول النصف الفارغ أو المملوء من كأس المتاعب المعيشية للمواطن، بعد سبع سنوات من الحرب الضاغطة. وقد حاولت مُعدّة الاستبيان أن تتبرأ، عبر مقدمة قصيرة، مما وصفته سياسة التضليل السائدة، فكتبت تقول: لم يكن هدفنا “من الاستبيان” تجميل الواقع، بل تقديمه من خلال اللغة الرقمية بأمانة، متفادين كليًا التزييف، أو تجميل قسوة الواقع وحدّته، بعد كل ما عشناه من اختلال القيم الثقافية والاجتماعية وحتى الإعلامية، وانعكاس ذلك كله على حياتنا.
من المرجح في هذا الإطار، أن الحكومات التي تشكلت لإدارة منظومة الأسد الاقتصادية، لم يكن بمقدورها أن تتعامل مع السوريين من غير تضليل أو تزييف؛ فالنظام الذي استولى على السلطة بالدبابات، ودعم بناه بمنظومة أمنية ضخمة، يدرك تمامًا أن الشرعية التي يفتقدها، قد تركت بينه وبين من يحكمهم، هوّة كبيرة (على الرغم من وجود عدد كبير من المصفقين إلى جانبه ممن انتفعوا منه) يعجز عن ردمها بغير نهج “يروج لنظام يعمل للصالح العام”، يقلص بالتالي المسافة التي تفصله عن الذهنية الجمعية. وبالرغم من الجهود الذي بُذلت؛ فشل الأسد، كما فشلت حكوماته، في تجسير هذه الهوّة؛ لأن السياسة التي استندت فيما مضى إلى أكاذيب الوحدة والحرية والاشتراكية، ولاحقًا إلى عدالة توزيع مكاسب الدخل القومي والتطور والرخاء والتنمية المستدامة، كغطاء لممارسات سلطوية أمنيّة متوحشة متعطشة لنفوذ السياسة والمال، سرعان ما تكشفت على شكل صدمات سياسية واقتصادية، دفع الشعب ثمنها من أمنه، ولقمة خبزه، ومعيشته التي تفتقر اليوم في ظل إنجازات حربه لأدنى درجات سبل الحياة.
علاء كيلاني
[sociallocker]
جيرون