“الصانع”  The maker



تموت الحقيقة معك ويبقى منك كتاب

ما كان الإنسان ليعلم كنه وجوده؛ لولا الإرث الذي تركه له من سبقه من عباقرة البشرية، وما تركه الشجر الذي بات جسده محبّرًا بالعلم، حمل رسالة الخلود إلى الاستمرارية والثبات من خلال كتاب. إن العالم يعيش تناقضات السؤال الوجودي والسؤال الباحث عن المعيشة، هذا يضعه دائمًا وأبدًا -مهما سعى وانغمس باليوميات ومشكلاته الحياتية- أمام أسئلة مصيرية؟ هذه الأسئلة إما أن تأخذه إلى الإبداع الخلقي والصناعة لإحياء الجمال الوجودي، أو أن تدفعه باتجاه الدمار والخراب، في محاولة منه للتملّص من فكرة العدمية، والسعي باتجاه الموت مجهول المصير بالنسبة إلى وجوده، والذي قد يكون احتمالية حياة أخرى، ففي كلا الحالتين يصنع الإنسان لوجوده في الحياة استمرارية، إما بخلق جمالية وحياة أو بخلق حرب.

مشروع فيلم (the maker) 2011 هو تعاون دولي يجمع طاقم الإنتاج الأسترالي للفيلم القصير (Zero)، والحاصل على 22 جائزة دولية، ويطرح حالة عميقة إنسانية كثيفة المغزى. شارك في ما يزيد عن 60 مهرجانًا دوليًا، مدة الفيلم 5:30، إنتاج وكتابة كريستوفر كيزولوس Chrestopher kezelos، باستعارة التصميم من مصممة الدمى والغرافيك أماندا لويز سبيد، من أوهايو Amanda Louise Spayd، تمّ صنع فيلم (الصانع)، بفكرته البديعة، باستخدام شخصية من خيال هذه المصممة التي بثت الروح فيها مع موسيقى الشتاء للموسيقار  Paul Halleyبول هالي. من الغريب استخدام عنوان موسيقى، كالشتاء، لحالة الخلق التي تكمن في طيات الفيلم القصير، ولكنها تبدو وكأنها انتظار طويل في حنايا المنزل، أمام المدفئة التي تجمع الأسرة، لكن الدمية هنا وحيدة لا شريك يؤنسها، وهذا إيحاء الفيلم من خلال الكتاب، بأن اصنعْ مؤنسًا.

الموسيقى هي مزيج من الموسيقى الأسترالية الكلاسيكية للكمان التي أسماها المؤلف بموسيقى الشتاء، تراوح على طول الفيلم ما بين السرعة التي تبدأ بها، ثم يتخللها مقطع حزين بطيء، ثم تعود منهمرة كالمطر، سريعة وشيقة، وقد أوصلت هدفها، مع المشهد البصري، لنحصل على لحظات تشخص فيها العيون، وهي اللحظة الأولى التي يبدأ فيها الفيلم بعينين شاخصتين للدمية، بموقف ذهول، وتساؤل: ماذا بعد؟

تأتي هذه الحيرة مباشرة بعد الشارة التي يبتّ فيها اسم الفيلم على قطعة قماش مطرّزة بإبرة، إيحاؤها من إيحاء العنوان، تشي بحالة من الصناعة والمهنة، ترافقها ألوان كلاسيكية للصورة، كي تؤكد الجو العام للتساؤل، بأن ما ستطرحه الدمية هو السؤال الوجودي نفسه الذي سيطر على الإنسان منذ بدء الخليقة.

السؤال هنا يبدأ من مخلوق غريب، ذي عيون جاحظة بلورية، وأربعة أسنان عظمية مركبة فوق بعضها، وجسد قماشي، لكنه يجد نفسه أمام كتاب، فيه تصاميم صناعية، رسومات وإشارات وشيفرات، كرسم دافنشي لجسد الإنسان، رسومات تخص هذا المخلوق الغريب، الذي يجد نفسه في صراع مع الزمن، ليصنع أهم وأجمل ما يمكنه فعله في حياته القصيرة. في اللحظة نفسها، تنقلب الساعة الرملية لتبدأ بعدّ الزمن المتهافت من فوهتها الضيقة، هو نفسه زمن إعلان البداية والاستمرار في الهدف الموجود بين طيات الكتاب، لم تمت اللحظة.. ها أنت هنا أمام كتاب.

يترافق الزمن الذي تقرأ فيه الدمية الكتابَ وتشرع فيه بالعمل، من خلال وضعها قطعة عجين ومدها لتصميم دائرة الوجه، ثمّ تضعها في النار على حرارة الإنضاج، لإنتاج تكوين قابل للحياة! فكرة الخَبز نفسها فكرة عبقرية في إحياء مشهد الصنع هذا، والقسم الذي عمل المصمم على إنتاجه هو الوجه، فإن كانت المادة المستخدمة من عجين أو جبس؛ فهي تحتاج إلى الشيّ، كي تعطي ملامح الوجه الذي يحمل قناع الشخصية للتواصل مع محيطها. ثم يبردها بالماء، ويضعها على جسد القماش الذي حاكه من قماش زهري، وكأنما الدمية تعرف أن ما تحتاج إليه للبقاء هو البحث عن شريك مقابل.

كائنات تسابق الزمن لخلق الجمال، من خلال حياتها القصيرة. هو سباقنا نفسه مع وجودنا الإنساني، ورسالتنا القصيرة بترك بصمة بأننا مررنا، فصناعة كائن مثيل هي إشارة لحاجتنا إلى قضاء وقت أطول مع الأسرة، مع الانتباه إلى أن الوقت قصير وسريع، ينقضي بلحظة تغلق بها عينيك، لا متسع للخلافات والأحقاد، وبأن الموسيقى هي سفير كوني، يجعلنا نتنفس الوقت بشكل تأملي عميق، تنحت ملامح صفائنا الإنسانية. فالإنسان من الأنس، وما يأنس به هو الشبيه. وغالبًا ما يكون الأنس من الجنس الآخر، كما ظهر في الفيلم، فقد صنعت الدمية شبيهًا له لها ملامح أنثى.

تبدو لحظة السعادة للدمية هي اللحظة التي تدب فيها الروح في ما صنعت، من خلال عزفه على آلة الكمان، حيث يغرق بالعزف بعد أن استنفد كل المحاولات لإحياء الدمية الأنثى، فتظهر لقطات يقدم فيها شرحًا لهذه الدمية النائمة التي أخذت تفاصيل صناعتها من الكتاب، مراحل مفصلة تشي بمهارة الصناعة، لكن عند الانتهاء من الصناعة يعجز عن إحياء الدمية، (يبدو أن شرح لحظة الإحياء غير موجود بالكتاب)، وعليه أن يكتشفها بنفسه، من خلال مفاتيح يضعها الكتاب بالوصف، إحداها علامة موسيقية تدل على الكمان موسومة على رأس الدمية الصانعة، (الذكر) والذي بدوره يضعها على الجبس الذي صنع منه وجه الدمية الأنثى، قبل أن يشويها بالفرن..

والعلامة الأخرى تبدو في الكتاب، وقد احتوى شرحًا تفصيليًا عن آلة الكمان، وعن معزوفة ما، وهي اللحظة التي تحاول الدمية تمثّلها كإحدى المحاولات في بناء علاقة وطيدة بإحياء روح الدمية. هي لحظة شبيهة ببناء علاقاتنا مع محيطنا الإنساني، والتي تحتاج إلى صدق عال موسوم بعلم وبطيبة وبأخلاق، لأن حاجة الإنسان إلى الآخر هي حاجة خلق لمعرفة الذات، وحالة استئناس، وحالة ترك بصمة لوجودنا القصير من خلال الحب والمحبة.

تفتح الدمية عينيها في خضم الموسيقى، سعادة عارمة تملأ الشخصيتين، والوقت ينفذ، عندها يسلم الخالق للمخلوق الأمانة التي حملها، تمامًا كرسالة الأب للابن، فهو يحاول أن يعطيه حصيلة نتاجه الإنساني والمعرفي، ونضجه، لكن يبقى لكل منا أسلوبه في التجربة، وفي خوضها، وفي شروط تشكيل العلاقات مع الآخر، وبعد تسليم الكتاب تموت نصف الحقيقة مع الدمية، لتبدأ الساعة الرملية من جديد، هي رسالة جديدة ووقت جديد.

خلاصة فيلم (الصانع) هي: لا تضيع وقتك، الحياة قصيرة جدًا، اقضِها مع الأحبة، واترك من وجودك كتابًا. لكن نصيحتي لك فكّر ألف مرة، قبل أن تطبع الكتاب، لتحيي شجرة.

*(الصانع) فيلم قصير حاصل على 22 جائزة عالمية منها:

جائزة “أفضل الرسوم المتحركة القصيرة لمهرجان نيوبورت بيتش 2012، “Best Animated Short, Newport Beach Film, Festival 2012”

“الجائزة الكبرى، رود آيلاند، السينمائي الدولي، 2011 Grand Prize, Rhode Island International, Film Festival 2011”

“أفضل فيلم للرسوم المتحركة، مهرجان سيدني 2012، Best Animation, Sydney Film, Festival 2012”

“أفضل فيلم قصير، انديانابولس، السينمائي الدولي 2012، Best Short Film, Indianapolis International, Film Festival 2012”

“الجائزة الكبرى، سيول الدولية، الكرتون ومهرجان الرسوم المتحركة 2012، Grand Prize, Seoul Intl. Cartoon & Animation Festival 2012″

أفضل فيلم للرسوم المتحركة، مهرجان (س ف س) العالمي، في جميع أنحاء العالم 2012، Best Animation CFC Worldwide Short Film Festival 2012”


خلود شرف


المصدر
جيرون