صورة المستعمر في شعر الشام المحكي
2 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
كم يُعدُّ مهمًّا تسجيل ما رصده الشعر المكتوب باللغة العامية، في مرحلة من تاريخ أي بلدٍ من البلدان، وهو القادر على تسجيل أكثر الصور عفوية، وأدق الأحاسيس التي تنتاب أبناء شعبٍ ما، خلال مرحلةٍ معينةٍ، ولا سيما خلال مراحل النضال الاجتماعي أو الوطني. وتلك مهمةٌ اضطلع بها الكاتب والباحث السوري: جورج عيسى، في كتابٍ تسجيليٍّ، صدر في دمشق سنة 2012، وجمع فيه ما استطاع جمعه من قصائد مكتوبة باللغة العامية، وصنَّفها وفق ما عكسته من مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خلال فترة الاستعمار الفرنسي. لكننا سنركز هنا على صورة الصراع السياسي مع المحتل الفرنسي، وفق ما انعكس في هذا الشعر، وهو القادر على تسجيل دقائقه.
يتوزَّع كتاب (الشعر المحكي في الشام زمن الاستعمار الفرنسي)، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب في دمشق، سنة 2012، وهو يقع في 455 صفحة من القطع الكبير، على عدّة فصولٍ، ومقدمةٍ تدور حول كيفية خروج فكرة الكتاب وأهمية توثيق هذا النوع من الشعر. وبينما يلفت الكاتب إلى أن ما يقصده بالشام هو دمشق وحدها، يقرُّ بما واجه من مصاعب في تجميع ما ورد بين دفّتيه من أشعار وقصائد في هذه المنطقة، فما بالك في عملٍ يجمع الشعر الذي كتب في المناطق السورية الأخرى، في تلك الفترة، وهو عمل لا بدّ أن تتنطَّع له مؤسسات من أجل توثيقه. كما أشار إلى البحث والتنقيب المطوَّلين عن أسماء الشعراء الحقيقيين الذين كتبوا قصائد، مغفلة اسم الكاتب، أو مكتفية بالحروف الأولى من اسمه، وهو ما قد يفسِّر تأخُّر صدور الكتاب حتى سنة 2012، ويساندنا في هذا الزعم العدد الكبير من المراجع التي لجأ إليها الكاتب لإتمام عمله، إضافة إلى مشقة الربط بين الحوادث التاريخية التي تقف وراء كل قصيدة وبين التاريخ الحقيقي الموثَّق أو المسرود شفاهًا، وخصوصًا في الحوادث ذات البعد الاجتماعي، وإسهابه في شرح تلك الحوادث وإظهاره مقدرة الشاعر في تسجيلها.
لا تبدأ معضلة الشعر المحكي عند التسميات التي أُطلِقَت عليه، لتنتهي إلى مدى الاعتراف به رسميًّا، أو إمكانية تصنيفه جنسًا أدبيًّا، على الرغم مما يكتنزه مخزونه من ذاكرة كل شعب، وانعكاس الصراعات التي تعصف بالمجتمعات في صوره. ومن حيث معضلة التسمية، وإضافة إلى الأنواع الشعرية القائمة بذاتها، مثل الزجل في سورية ولبنان، رصد الكاتب (جورج عيسى) تسميةً لهذا الشعر، درجت في فترة النصف الأول من القرن العشرين في سورية، في بعض الأقطار العربية، وهي تسميةُ “الشعر القومي”. وأورد في كتابه أنه لوحِظ شيوع هذه التسمية، في سورية ولبنان ومصر والمغرب العربي، وهي تسميةٌ تضاف إلى تسمياتٍ أخرى أُطلِقَت عليه، وهي الشعر العامي والشعر الشعبي، وغيرها من التسميات الخاصة بكل منطقةٍ أو دولةٍ من الدول العربية. أما تسمية الشعر القومي، فيعود سببها إلى ما كان يُعوَّل على الشعر العامي من مهمة تقليل الفوارق بين اللهجات في الدول العربية، ومساهمته في الوصول، في مرحلةٍ متقدمةٍ، إلى فهم أبناء كل بلدٍ لهجة البلد العربي الآخر، وهو باعتقاد كثيرين، تعويلٌ على أمر لن يثمر؛ لكون الفصحى تضطلع بهذه المهمة على أكمل وجه.
وفي حين تضمَّن الفصل الأول دراسةً مُسهبةً حول الشعر المحكي وتقسيماته وأنواعه، في سورية ولبنان وبقية الدول العربية، تضمنت الأقسام: الثاني والثالث والرابع، بالترتيب، تبويبًا للشعر المحكي، من ناحية تناوله الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال مظاهر تلك الأوضاع وانطباعات الشعراء حولها. أما الفصل الخامس، فمكرَّسٌ للشعر الذي يُعنى بالمشاعر الذاتية، الحب والغزل والشكوى والتأمل، علاوة على الوصف. وهنالك الخاتمة التي يكمل فيها الكتاب ما كتبه في المقدمة، مضيفًا ما لاحظه من أن الشعر المحكي تناول الموضوعات ذاتها التي تناولها الفصيح، بل زاد عليها في بعض الموضوعات اليومية والمواقف التي قد يَغفل عنها الفصيح، لأسبابٍ ربما تتعلَّق بترفع الأخير أو بسبب وقوعه تحت عدسة الرقيب الفرنسي. إضافة إلى ذلك، يُلحق الكاتب، بكل فصل من فصول الكتاب، بعض النصوص الشعرية التي تتوزع وفق ذلك التبويب.
غير أن ما يلفت في هذا الكتاب هو اتباع بعض الشعراء أسلوب المداورة، أثناء الحديث عن الاستعمار الفرنسي واحتلال القوات الفرنسية سورية، وممارساتها بحق أبناء الشعبين السوري واللبناني في تلك الفترة، وهو ما يُشير إلى حالة القمع التي فرضها هذا الاحتلال، ومصادرة الحق في حرية التعبير، وما يرافق ذلك من تهديدٍ بعقابٍ، قد لا يختلف عن عقاب من يثور في وجهه. فعلى سبيل المثال، كتب الشاعر الشامي علي دياب قصيدةً، بعنوان “حظّنا في الزواج”، سنة 1930، يتحدث فيها عن ابتلاء السوريين بعدة محتلين، مشبِّهًا الأمر بابتلاء الرجل بزوجاتٍ غير صالحات. وفي حين صوَّر الاحتلالَ العثماني بالزوجة الهرمة، في إشارة إلى ما كانت توصف به الإمبراطورية العثمانية في تلك الحقبة، أي “الرجل المريض”، ينتقل إلى تصوير فترة حكم الملك فيصل التي دامت سنتين، ويقول إنها كانت فترة انتعاشٍ وسعادةٍ، ثم جاءت السنيورة، أي الاحتلال الفرنسي الذي وعدَ بالعصرنة والتحضُّر والمدنيّة، لكنه اتَّبَع الهمجية، ونهبَ خيرات البلاد.
أما أسلوب المباشرة، وما يسجله من دقائق، فإنه سبيلٌ لإيصال ما يصعب على الفصيح إيصاله لبسطاء الناس، ويتسم بإمكانية تناقله في ما بينهم وانتشاره، وبالتالي نشر ما يحمله من مضامين، تفضح ما تقوم به فرنسا مقابل ما تدعيه، وتوعيه المواطنين إليه. وفي هذا الإطار يبرز ما كتبه الشاعر عبد الغني الشيخ في قصيدةٍ تفضح وعود فرنسا الكاذبة، وإخلال الدول الاستعمارية بالمعاهدات التي أبرمتها مع الشريف حسين. وفي قصيدةٍ للشاعر علي دياب، يَظهر الوعي الشعبي لمشروع الجنرال ديغول في تقسيم سورية، سنة 1920، وإنشاء دولة لبنان الكبير، ويلفت الشاعر إلى أن الشعب يعي هذه الخطط التي لا تمنع حلمه بالدولة العربية الكبيرة. وعيٌ ظهر في قصيدةٍ زجلية لشاعرٍ مجهولٍ، يتحدَّثُ فيها عن المجلس التمثيلي لدولة دمشق، التابع لفرنسا، والذي قاطع الشعب انتخابات تشكيله، وأعلن إضرابًا تزامن مع إجرائها استمر 14 يومًا. كما كان جليًّا مدى تركيز هذا الشعر على الحكام الصوريين الذين كانت تعيِّنهم فرنسا، مثل الشيخ تاج الدين الذي تناوب بين رئيس حكومة ورئيس جمهورية تحت سلطة الانتداب، ابتداءً من سنة 1928 حتى أواخر سنة 1943، وفضح ارتهانه للمستعمر، في حين أنه كان يتصنَّع سعيًا نحو إنهاء الانتداب.
من الصعب الإحاطة بكل الجوانب التي تطرق إليها الكتاب في مقالةٍ كهذه، فهو وثيقةٌ مهمةٌ تغني عمل الباحثين التاريخيين إلى دقائق، يمكن أن يكون قد غفل عنها المؤرخون. وفي هذا المضمار، يتبين من بعض الكتب التي وضعها الكاتب جورج عيسى، أنه يهتم بمن غُمِطوا، والذين، على الرغم من أهمية أعمالهم، لم يجرِ التركيز عليهم لأسباب غير معروفة. فقد وضعَ كتابًا بعنوان “شيخ المصوّرين العرب، يحيى بن محمود الواسطي“، (دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996)، وكتاب “شعر بِشر فارس- رائد المذهب الرمزي في الأدب العربي“، (وزارة الثقافة، دمشق 2000)، وكتاب “فائز سلامة المعروف بشاعر الصعاليك“، (اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001)، وهي كتبٌ يضيء بها على أعمالهم، ويعيد بعض الضوء إليهم.
مالك ونوس
[sociallocker]
جيرون