مغالطات ومتناقضات



بداية، لسنا بصدد التقليل من شأن أي جهد كان، وكائنًا من يكون صاحبه، زميلًا في مهنة المتاعب أو أي شخص آخر، بل بالعكس تمامًا، لا بدّ من توجيه الشكر له وتشجيعه ودعمه، ولا سيّما إن كان هذا الجهد، منطلقًا من دافع غيرة على مصلحة الوطن وتاريخه ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، وكذلك من نية طيبة صادقة في تقديم المعلومة وتفنيد المزاعم، وفق ما يمتلكه هذا الزميل أو الشخص المعني من أرضية معرفية وثقافية، تخدمه في تقديم المعلومة بدقة، وقد يصيب أو يخيب عملًا بالحديث الشريف: “مَن اجتهد ولم يصب؛ فله أجر واحد، ومَن اجتهد وأصاب؛ فله أجران”، ولا نهدف هنا من وراء ما تقدم سوى تصويب الخطأ في المعلومة انطلاقًا مما تطلبه الموضوعية العلمية، كي لا تصل إلى المتلقي، كما وصلت إليه، من خلال شطحات ومغالطات ومتناقضات الزميل العمر، محاولين تصويبها وتصحيحها في ما نمتلكه من مخزون معرفي وتاريخي متواضع، والمشكلة التي نحن بصدد معالجتها هي أن المعلومة لم تسعف الزميل موسى العمر في معرض رده، على مزاعم بعض الإخوة الكُرد، وهنا أشدد على كلمة “بعض”، كي لا أتّهَم بالتعميم، ولا أشمل الجميع بالتأكيد، والزميل “العمر” بالطبع يخص بالذكر، كما يسميهم بـ “الانفصاليون” منهم، بحسب ما ورد في تسجيل الفيديو، ومطالبته إياهم، بعدم التجني والوقوع في أوهام نفسية خلقوها لأنفسهم، من أن العرب حاقدين عليهم.

مناسبة ما تقدّم، يأتي على خلفية متابعتي لفيديو، أعدّه الزميل العمر تصدير “المنبر السوري”، بعنوان “الكرد وحقيقة المظلمة التاريخية والأرض التاريخية… ما لهم وما عليهم”،  ومن لديه رغبة في مشاهدة الفيديو، فإنه ما يزال متوفرًا على موقع (كلنا شركاء)، بالتأكيد لا شك في صدق النيات الطيبة من وراء فيديو كهذا، ونقدّر الجهد الذي بذل في تصديره، ولكن ليس من الضرورة بالمطلق، أن تقود النيات الطيبة الصادقة دائمًا إلى المبتغى الصحيح، لا سيّما إن افتقرت هذه النيات إلى المعلومة العلمية التاريخية الدقيقة، التي افتقر إليها الزميل العمر، الذي لم يحالفه الحظ في امتلاك ناصية تلك المعرفة التاريخية، والتسلح بها، وتوظيفها بما يتناسب وحجم المهمة التي أراد التصدي لها، لقد خانته المعلومة، لتفنيد مزاعم بعض الإخوة الكرد أو “الكورد”، وليس “الأكراد” بحسب تسميته لهم، بما أن بحسب الزميل العمر التسمية الثانية غير مستحبة لديهم، ويعدونها انتقاصًا منهم بما أنها كانت تطلق على البدو الفرس الرحل، وأعني بتلك المزاعم مزاعمهم حول المظلمة والأرض التاريخية، فأوقع نفسه في مغالطات تاريخية، ألحقت الضرر بتفنيده وبمهمته؛ علمًا أنه في حالات كهذي تقتضي الموضوعية التاريخية الالتزام بها، والابتعاد عن الشخصانية أو أي خلفية أخرى، ففي معرض رده على ما يزعمه بعض الإخوة الأكراد عن المظلمة التاريخية، فقد خلط الحابل بالنابل، وأصاب في مكان، وأخطأ في مكان آخر، وإذا كنا نتفق معه أو لا نتفق، حول الأكراد أكان قد أصابهم الظلم والغبن والتعسف، من قبل مصطفى كمال أتاتورك ورضا بهلوي، بحسب ما ذكر في الفيديو، لا سيما حين خاطبهم: “إنكم شعب مقموع من أتاتورك إلى رضا بهلوي إلى حافظ الأسد إلى بشار الأسد”، وخاصة لناحية قضاء أتاتورك على ثورة الشيخ محمد سعيد بيران، والتي عرفت بـ “ثورة الشيخ سعيد النقشبندية” في جنوب شرق تركيا، في شباط/ فبراير عام  1925، والتي انتهت باعتقال الشيخ سعيد، وعدد من قادة الانتفاضة، وصدور حكم الإعدام بحقهم في 30 أيار/ مايو 1925، وقد أصاب الزميل العمر بهذه المعلومة التي لا يمكن نكرانها، إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقوع في التناقض غير المحمود، ففي سياق الجملة ذاتها، تحدث عما لحق بالأكراد من قبل حافظ الأسد، ليوقع نفسه في مغالطة تاريخية، إذ ذكر أنه في عام 1960 طالب الكرد بحقوقهم من حزب البعث الذي انقلب على السلطة في عام 1960، حيث كانت سورية في التاريخ المذكور لا تزال ضمن الجمهورية العربية المتحدة، وإن كان يقصد بالظلم الذي لحق الأكراد في هذه الفترة، فهو يعني بالضبط إحصاء عام 1962، وليس عام 1960، علمًا أنه في العامين المذكورين، لم يكن هناك وجود لحافظ الأسد الذي كان برتبة رائد في الجيش ومسرح منه خلال فترة الانفصال، ولا كان “حزب البعث” في السلطة آنذاك، فالإحصاء الذي جرى كان خلال فترة الانفصال، قبل وصول البعث إلى السلطة في سورية عام 1963، نسوق هذه المعلومات ليس من باب الدفاع عن حافظ الأسد ولا عن حزب البعث، بل يأتي ذلك من باب الأمانة العلمية التوثيقية للأحداث، ولا سيما أن بعض الإخوة الأكراد استغلوا ذلك الإحصاء، وتاجروا به وغالوا في الهجوم على مفرزاته، بزعم أنهم ظلموا وحرموا من حق المواطنة، وإن كنا لا ننفي هذه المظلومية، فإنّ هناك كثرًا من الإخوة الأكراد يعلمون حق العلم أن هناك عائلات كردية هي من ظلمت نفسها، وتفادت تسجيل أفرادها، إما تهربًا أو خوفًا أو بسبب الحاجة لأبنائها، ومنعهم من الالتحاق بخدمة العلم، أو كما يلفظونها بالعامية “الجندية الإجبارية”، ناهيك عن قدوم عدد من العائلات من “فوق الخط”، بحسب التعبير الدارج بين أبناء الجزيرة، وهي التسمية التي تطلق على القادم من تركيا إلى سورية، قبل الإحصاء وبعده أو حتى بعد سبعينيات القرن الماضي، إلى جانب قدوم بعض العائلات من العراق، وهل يستطيع أحد من الإخوة الأكراد -إن تحلى بالموضوعية والصدق مع الذات من دون تعصب- نكران وتفنيد هذه الوقائع! إن من يبحث عن صيغ للعيش المشترك والتاريخ المشترك، ويحترم الماضي القريب البعيد، لا ينقب في مجارير العقليات العفنة من كلا الطرفين، بل عما ساد ذاك العيش والتاريخ من علاقات اجتماعية حميمة وإنسانية وحسن الجوار والتعامل اليومي، في السراء والضراء، والعودة إلى تلك الأيام التي كان يتخاطب بها أبناء محافظة الحسكة بالعم وابن العم والخال، قبل أن تدنس السياسة وأصحاب المصالح الضيقة، ذاك العيش الرائع والتاريخ الجميل.

منذ نهاية السبعينيات، نحن نرجو الإخوة الأكراد طرح الأمور من بابها الوطني الواسع؛ كي نقف معًا وندافع معًا، وعدم الانجرار وراء المشروعات الانفصالية، وطرح المظلومية من خلال العمل على إقصاء الشريك في الوطن، بمزاعم غير مثبتة تاريخيًا ولا جغرافيًا، وإن كنا ضد ما تعرضوا له من تهميش مبرمج من ستينيات القرن الماضي على أيدي رجال زعموا أنهم رجال دولة، كما حرموا من أبسط الحقوق الإنسانية كالجنسية والحقوق الثقافية وغيرها، وأعتقد أن الكل ساهم وكرس وعزز هذا الحرمان أنظمة متعاقبة وأحزاب ومنظمات.

المغالطة الثانية

في إطار حديثه عن وقوف هؤلاء الانفصاليين الــ (ب ي د) والــ (ب ك ك)، مع الظالم (يقصد النظام) الذين كان عليهم أن يقفوا مع المظلوم أي مع شعبهم، يورد هنا حادثة الملعب البلدي في القامشلي، يوم الجمعة 12 آذار/ مارس عام 2004، خلال المباراة التي جمعت فريقي الفتوة القادم من المحافظة الجارة دير الزور، وفريق الجهاد من مدينة القامشلي، ضمن مباريات الدوري العام في سورية، وما رافق ذلك من أحداث مأسوية، إذ أوقع نفسه أيضًا هنا في مغالطة، حيث نسب مكان وقوع هذه الحادثة إلى مدينة عامودا، في حين أن المكان الصحيح، حيث وقعت الحادثة المؤلمة، كان في الملعب البلدي بالقامشلي، وامتدت في اليوم التالي إلى عامودا والدرباسية والحسكة.

المستغرب في معرض إسهابه عن الـ (ب ي د) و الـ (ب ك ك) أنه يعتبر الثاني فرعًا للأول، في حين هو العكس أي أن الأول هو فرع للثاني، إذا يقول: المقصود الـ (ب ي د) وفرعه الـ (ب ك ك) في تركيا.

الثالثة

في معرض تفنيده للمزاعم الكردية حول الأرض التاريخية في سورية، يتكشف التناقض في كلامه؛ إذ لجأ بداية إلى القول: “لا وجود لأرضكم التاريخية في سورية”، مضيفًا أن “أرضكم التاريخية في طوروس وزاغروس شمال شرق العراق وشمال غرب إيران، وجنوب شرق تركيا، وجزء بسيط في أقصى شمال شرق سورية”، ليعود ويشير بتسويغ ديني لا عقلاني إلى أنه “لا وجود لأرض تاريخية لدى جميع شعوب الأرض (لا العربي عندو أرض تاريخية، ولا الكردي عندو أرض تاريخية وحتى لا التركي) أن الأرض ملك لله وحده، يرثها لمن يشاء من عباده”  وقبل ثواني من هذا الكلام، قال: “أرضكم في جزء بسيط في أقصى شمال سورية”، وهنا الغلطة الثالثة أراد أن يصيب، ولكنه خاب في تفنيده، وكي يؤكد قوله: “إن الأرض لله”، ينفي حتى تواجد سكان فيها وعليها، كما لو أن سكانها الأصليين مجرد عابري سبيل، سواء أكان ذلك في العراق أو في سورية، والمضحك أكثر أنه في بداية الفيديو ينفي أي وجود للأكراد على هذه الأرض، تناقض يخرج العقل من الدماغ، ولم يكتف بذلك بل شطح بخياله، وخلط الحابل بالنابل، في توظيف غير موفق، ففي سياق حديثه عن الأرض التاريخية في بقعتنا الجغرافية، يعطي مثال الأندلس، والسؤال ما هذا الخلط، وما الرابط ما بين نفي المزاعم التاريخية للإخوة الأكراد وإيراد مثال الأندلس؟ وهل زعم العرب يومًا أن الأندلس أرضهم التاريخية؟

في مفارقة جديدة، وفي إطار نفيه أن الحسكة ذات أغلبية كردية، وهو محق في نفيه، لكن نعود إلى مشكلة الزميل العمر، وهي عدم امتلاكه للمعلومة الصحيحة، إذ ينسب تواجد قبيلة طي العربية إلى الحسكة، في حين تواجدها هو في ريف القامشلي امتدادًا إلى القحطانية، ويضيف بالقول: (بدكم الحق أكثر الحسكة كلها سريان وأرثوذكس بالأصل، حي الكلاسة وشارع المحطة) وهنا أيضًا يشطح بسبب عدم معرفته للتسمية الصحيحة، فاستخدم “السريان والأرثوذكس”، في حين التسمية الأصح هي السريان الأرثوذكس، فالسريان هي التسمية الأصل القومي الثابت، في حين الأرثوذكس أو الكاثوليك فهي متحولة تعريفية لطائفة كنسية، ويزيد من مغالطاته أكثر، إذ يشير إلى تواجدهم، أي عن السريان الأرثوذكس، فيتحدث عن حي محدث جديد وشارع جديد، بسبب عدم معرفته بمدينة الحسكة، التي أول من أسسها، وسكنها هم السريان المسيحيون، بمعنى السريان هم من بنى المدينة، وليس الحسكة وحدها فقط، بل أغلبية مدن وبلدات المحافظة، من المالكية وقبور البيض (القحطانية) وعامودا والدرباسية وتل تمر وصولًا إلى الشدادي، بحيث باتت تلك المدن والبلدات مركز استقطاب لأهل الريف الجزراوي، وخاصة المكون الأساسي للجزيرة وأقصد بالمكون العربي، ومن المستحيل تجاوز هذه الحقائق، وما حصل من متغيرات ديموغرافية، في الربع الأخير من القرن العشرين، له أسبابه وظروفه، ولا يتسع المكان هنا لسرده.

المضحك في سرد الزميل العمر وانفعاله لحظة تأكيده (كنيسة مريم العذراء في تل تم)، طبعًا هو يقصد دير العذراء على الطريق الواصل ما بين مدينة الحسكة وبلدة تل تمر، والذي يعود بناؤه لبضع سنوات خلت، لكن يبدو أن المعلومة وصلته بشكل خاطئ فأصر عليها، (يعترف الزميل العمر لاحقًا في الفيديو أن مصدر معلوماته أحد الشباب الكرد، من دون أن يشير إلى الإمكانات المعرفية والتاريخية لهذا الصديق) والأنكى من ذلك يزيد من انفعاله ليؤكد بالقول: “إن أكبر الكنائس في سورية في تل تمر”، وللعلم إن بلدة تل تمر أحدِثت في أربعينيات القرن الماضي، في إثر لجوء الإخوة الآشوريين قادمين من العراق عام 1933 تقريبًا -وهنا أيضًا الحديث عن ظروف انتقال الإخوة الآشوريين من العراق إلى سورية يطول- ولكن من المغالطة التاريخية، أن نقول إن تل تمر فيها أكبر الكنائس في سورية، ولعلم الزميل العمر لقد وصلت (داعش) شباط/ فبراير 2015 إلى أغلبية قرى تل تمر، وأحرقت وهدمت عددًا من الكنائس هناك، وهذا أيضًا له حديث آخر.

في معرض رده على “الانفصاليين الكرد”، كما يسميهم، يقول في الدقيقة 8،18 إن التركمان في سورية 2،5 مليون، في حين الكرد لا يتجاوز عددهم الـ 1،5، هنا يبرز السؤال الأخطر، وكما يقول المثل المعروف “أجا ليكحلها عماها”، من أين حصل على هذه الإحصائية التي تشير إلى أن عدد الإخوة التركمان 2.5؟ ومن يستمع لأرقام كهذي عن تواجد التركمان والأكراد والشركس والأرمن، سيصل إلى قناعة مفادها أن باقي المكونات من السوريين العرب المسيحيين أو المسلمين حديثة العهد في سورية، ولا تشكل تلك النسبة التي تذكر.

المفارقة الساذجة التي ما بعدها سذاجة في حديث الزميل العمر، هي حديثه في الدقيقة 10،30 أنقلها حرفيًا: “هنا نقطة، يا شباب، الكرد معظمهم مسلمون سنة، ولكن قادتهم يقدمون كرديتهم على الإسلام، وفي العراق يفاوضون الحكومة العراقية على أساس أنهم كورد وليسوا سنة”. والسؤال مجددًا برسم الزميل العمر: أين الغرابة في تقديم قوميتهم على ديانتهم، وهل مطالبهم وحقوقهم قومية أم دينية؟ وهل مبعث استغرابك أنهم سنة فقط! وبالتالي أنت مستغرب من مطالبهم مع أنهم سنة، ولو لم يكونوا سنة قد يبرر لهم ما يقوموا به، فعلًا قمة السذاجة، أن تتجلى هذه الرؤية الطائفية الضيقة، لدى إعلامي يزعم أنه مع ثورة شعب ثائر ينشد الحرية والكرامة.

النقطة الأخيرة التي أود التوقف عندها، قبل أن أختم عرض ما شطح به خيال الزميل العمر هي، وفق ما وردت على لسانه بالحرف: “(سايكس بيكو) قسمتها لبلاد الشام ورسمت حدودها، إنتوا ما طلعلكم حصة، ما طلعلكم نصيب، هذا ما ذنب العرب، ذنب يلي عمل سايكس بيكو، حاسبوه هو حلفيكم الآن” (من يقصد بحليفكم الآن، هل أميركا مسؤولة عن سايكس بيكو، برأي الزميل العمر..؟)، كما لو أن (سايكس بيكو) حصلت لمجرد توزيع حصص على العرب وغيرهم، أسألكم بالله، هل هذا حديث شخص إعلامي!

لن ولم أقحم نفسي في حديثه وكلماته حتى لو كانت بحق ما أسماهم بـ “الانفصاليين”، هذه مسؤوليته الأخلاقية، ولن أتطرق لمفارقاته الغريبة في الخلط بين الوطني والديني، كما لو أن العيش المشترك الذي ينبغي أن يُبنى عماده الدين والصلاة والإيمان… وكذلك استخدم العبارة أكثر من مرة في سياق حديثه، وأقصد بذلك قوله: شو هل التحشيش، وأنا بدوري أسأل الزميل العمر ما ها التحشيش، يا أيها الزميل الإعلامي؟

أتمنى أن أكون قد بينت وأوضحت، مع أملي أن لا تكون أغلبية فيديوهات الزميل العمر المصدرة باسم “المنبر السوري” والمنشورة على بعض المواقع، بهذه السوية من المعلومات المغلوطة التي وصلت إلى المتلقي، أراد أن يصيب فخاب تصويبه.


غياث كنعو


المصدر
جيرون