شخصيات من لحمٍ وحبر



أعود في كل فترةٍ قد تطول؛ لأقرأ ما كتبته من قصص؛ كأنما أقرؤها لأول مرة! ثمة شيء ما خلف أن تقرأ للمرة الثانية ما كنت قد قرأته.. لغيرك، أو كتبته.. أنت.

ما أعرفه أني قرأت (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، وأنا في الثالث الإعدادي؛ ثم مضيت بعد سنواتٍ إلى مكتبة كلية الآداب في جامعة حلب؛ فاستعرتها، لأقرأها من جديد؛ ويا لهول ما اكتشفت!

كنت في الثالث الإعدادي قد قرأتها كحدوتةٍ فانتازية؛ ولم أفهم تمامًا ما بين سطورها؛ بل اكتشفت أني ما زلت واقفًا على تخومها، حتى أعدت قراءتها من جديد، كرسالةٍ فلسفيةٍ ناقدةٍ فريدة، تنطوي على سخرية عميقة.

أعدت -أيضًا- قراءة كتاب فريدريك نيتشه: (العودة إلى ميتوشالح)؛ وقراءة (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ في أول طبعاتها البيروتية؛ ومسرحية (فاوستوس) ليوهان غوته؛ وكتاب جان بول سارتر: (الوجود والعدم)؛ كما (لعبة الكريات الزجاجية) لهيرمان هيسه، في طبعة “سلسلة الألف كتاب” المصرية التي صدرت منذ الستينيات من قرنٍ مضى؛ وغيرها من الكتب الأمهات التي كنت قد قرأت؛ كأنما لأكتشف أين أنا ما بين حقبتين من حياتي؛ وأين أقف؛ بل إلى أين اتجهت.

ولطالما أعدت قراءة (ألف ليلة وليلة) مرةً بعد مرة.. بالدهشة ذاتها، حين قرأتها أول مرة؛ وكأني أكتشف أسرار سرد الحكايات.

استحكمت بي تلك العادة؛ فصرت أعيد قراءة قصصي أو مسرحياتي التي كتبتها؛ وحتى القصائد التي اقترفتها كخطيئةٍ مغتفرةٍ كالحب.. ويمكن تكرارها بلا إحساسٍ بالإثم! ينكرها عليّ أصدقائي من الشعراء الواقعين حتى مفرق شعرهم في خطاياها.. قائلين بعنجهية الشعراء المحترفين: “خليك في القصة القصيرة متلك.. أحسن”.

حسنًا، هكذا أعيد قراءة قصصي، كل فترةٍ تطول ولا تقصر؛ كأنما أتدرب خلال قراءتها على كتابة قصصٍ لا تشبهها؛ بل لا تشبه سوى نفسها؛ فلطالما كرهت إعادة إنتاج المناخات أو الأفكار ذاتها؛ حتى لو أني أعيد بعضها مرغمًا.. للتأكيد عليها، في المقالات الصحفية فحسب.

اكتشفت -أيضًا- أني كتبت عمن أعرف؛ وعمن عايشت؛ وعمن سمعت؛ وعمن تخيلته شخصًا من لحمٍ وحبر؛ وبأني -أيضًا- أبني شخصياتٍ مزدوجةٍ: نصفها من الواقع؛ ويكتمل نصفها أو أكثر من نصفها خلال الكتابة.

حين كتبت عام 1976 أول قصصي المكتملة فنيًا: (30 قطعة لجسد الرغيف) عن شابٍ فلسطيني نجا من مجزرة “تل الزعتر”، حين اختبأ بين أكياس الطحين في مخبز؛ فرأى الجثث في “آلة العجن” بدل العجين، وفي “بيت النار”، وفوق “كفتي الميزان”.

ثم التقيت بعد خمسة عشر سنة في بيروت، برجلٍ فلسطيني عرفني عليه صديق صحفي لبناني، قائلًا: هذا هو “خالد” الفلسطيني الذي اختبأ في فرن تل الزعتر.

ابتسم الفلسطيني: كنت شابًا آنذاك؛ كان اسمي حسان وقتها؛ ولا أمانع بعد أن قرأت قصتك تلك.. أن تناديني خالد.. باسمي القصصي!

قلت له: أنا سعيدٌ.. لأنك قد نجوت من المجزرة، لتكون شاهدًا عليها مرتين؛ مرةً في الواقع؛ ومرةً في قصتي.

وحين قرأت في إدلب.. قصتي: (بيجاما زرقاء سماوية) عن توأم إخوةٍ “أسعد وسعيد” مشهورين فيها؛ تساءل قريبٌ لهما: لا أذكر أن أسعد قد ذهب إلى الجبهة، ليكون مع أخيه في الخندق ذاته؟! فابتسمت: ذهب بأمانيه.. إلى أخيه.

وحين أرسلت قصتي (عينا نفرتيتي) إلى الصديقة المصرية التي استلهمتها منها عام 2006 عن الثورة المصرية قبل حصولها عام 2010؛ اتصلت هاتفيًا بي.. تسألني بما يشبه الاستنكار: إحنا ركبنا “الحنتور” إيمتى؟!

ثم استدركت: استنى شويه؛ لما كنا في ميدان “طلعت حرب”، وكان شباب 6 إبريل في وقفة احتجاجية، وكانوا مية.. بس، وكان حواليهم ألف واحد من الأمن المركزي؛ أنا مش متذكره.. إني قلت: دول خايفين.. يبقوا مليون!

فابتسمت.. قائلًا لها على الهاتف: صاروا بعدين.. أكتر من مليون! ثم أضفت: وأنت يا نفرتيتي؛ لم تكوني قد ذهبت بعد.. إلى ميدان التحرير!

بعد خمس سنوات من الثورة السورية؛ ولم أكن قد دخلت سجنًا أو اعتقلت؛ سوى مرةٍ واحدة.. حين قبضت عليّ “الشرطة العسكرية” بداعي التخلف عن الخدمة الإلزامية. يا للعار.. حين يتخلف سوري عن جيشٍ لم يحارب منذ 1973!

أخذني عنصران من جماعة “البندورة” عفوًا.. من الشرطة العسكرية، بقبعتيهما الحمراوتين؛ وعلى حسابي الشخصي في باص “الهوب الهوب” إلى سجن “البالونة” في حمص؛ وفي استراحة “معرة النعمان” التهما كيلو “لحم عجين” على حسابي؛ وشفطا إبريقًا من العيران؛ وحليا أضراسهما بأقراص “شعيبيات” إدلبية بالجوز؛ وهما ينظران إليّ شزرًا.

في الليلة الوحيدة التي قضيتها في “سجن البالونة”، تذكرت كل الروايات عن المعتقلات، وعن السجون؛ وكل القصص الشفوية عن مصاير المعتقلين في سجون الأسد الأب؛ كأنما لأنفي عن نفسي صفة السائح في وطنه؛ ثم اعتقلوه لمدة 24 ساعة فقط لا غير!

مضت على تلك الليلة 25 عامًا.. حين كتبت قصتي: “الشاهد القيصر” عن مصاير معتقلي الأسد الابن منذ مطلع 2011؛ فإذا بي.. ومن حيث لا أدري؛ أستلهم في قصتي كل الوقائع اليومية الصغيرة التي حكاها لي معتقل في مهجع “البالونة”؛ تمت استضافته في “فرع فلسطين” بكل أنواع التعذيب، وسيرحلونه غدًا إلى “سجن تدمر” المركزي.

هل كان هو ذاته.. الذي مات في قصتي تحت التعذيب؛ ولكن بعد ربع قرن؟ وهل كنت أنا الشخص الذي في القصة يداوي جروحه وقروحه؛ وإلا.. ما الفرق بين المعتقلين في سجنٍ صغير: “سجن تدمر” عن الطلقاء، ولكن في السجن الكبير: “سوريا الأسد”. كان اسم المعتقل “في قصتي” بتشابه الأسماء: عصام النجار.

وحين مات الذي عذبوه، أمام عينيه؛ ثم لم يجدوا في الصباح جثته؛ صرخ المحقق به، أو بي: وين اختفى صبحي.. يا عصام؟!

أجبته لأول مرةٍ بعد صمتٍ طويلٍ.. طويل: أنا صبحي بن يوسف الدوماني!.

وهذه أول مرةٍ.. أترك في قصصي الاسم الحقيقي لأحد أبطالها؛ لأني ما زلت أبحث عن “صبحي”: المعتقل منذ 1990 في “سجن تدمر”، وحتى محرقة المعتقلين في “سجن صيدنايا”     .2017


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون