البحث عن عروس في زمن الثورة



في أواخر عام 2011، بعد أن أعلن النظام القاتل، أن حمص تحولت في قبضة “الإرهابيين” إلى إمارة إسلامية، وأنه تم القضاء على “أمير حمص”، رشحني بعض الحماصنة للمنصب الفارغ، فقبلته على شرط أن يعلنوا أن “أرثوذكسيا” سيتولى إمارة حمص الإسلامية، فوافقوا دون تردد، وخصصوا لي “دبابة” زرقاء لتنقلاتي داخل أحياء المدينة. ولكيلا يتهمني أحدهم “بالزعبرة”، فإنني أعلن أنني أحتفظ بكل الوثائق التي تؤكد مزاعمي.

في الهدنة الأولى بين ثوار حمص والجيش الأسدي، نشطت طلبات الزواج في المدينة، وكأن جو الحرية الذي سيطر على الناس، والتظاهر، والخوف من طلقة “طائشة”، أو اختفاء غير معلن، قد شجع الشباب على الإسراع في إكمال “نصف دينهم”، فنشطت الأمهات والأخوات في البحث عن عرائس للأبناء والإخوة. ومن حظ الشباب، أن “إخوة المنهج” لم يكونوا قد “قرروا” الظهور على سطح موجات الثورة، فدورهم كان مؤجلًا إلى أجل معلوم. المهم في الموضوع، أن أحد الثائرين قد كتب لي، بصفتي أمير حمص، أن أرسل له كتب توصية، أو شهادة حسن سلوك، لأن أهل العروس التي وجدتها أمه، يطلبون منه ذلك. فسألته التفاصيل، فكتب: أعرف أنك أمير عصري، لذلك سأتجاوز المقدمة “الطللية” التي أصبحت ماركة مسجلة لكل “ثائر”، “ينط” على إحدى المحطات التلفزيونية لتقديم خبراته الإعلامية، فيبدأ بالدعاء بالنصر، والترحم على شهداء الثورة، وأدخل مباشرة في موضوعي الشخصي، ذهبت أمي إلى أحد البيوت الحمصية لتطلب يد ابنتهم لي، فقالت أم الفتاة: نحن في عصر الحرية، لذلك لا بدّ من سؤال الفتاة، وهي صاحبة الشأن في ذلك، وعندما تم توجيه السؤال للفتاة: أتقبلين الزواج من “فلان بن علتان”؟، قالت الفتاة: شرطي الأساس للموافقة أو الرفض هو معرفة أكان الشاب يشارك في تظاهرات يوم الجمعة أم لا، وأريد وثيقة بذلك من مصدر معروف، وليكن بعلمكم أنني لن أقبل بشهادة مختار عينته المخابرات، ولا بشهادة رجل دين يقبض راتبه من الأمن، ولا من ثري شريك لأحد مسؤولي النظام، وتابع الشاب: وجدت نفسي مضطرًا إلى طلب شهادة منك، لأنك “أمير” منتخب من قبل “زكرتية” الحارات الثائرة، ولأنه معروف عنك أنك لا ترتشي، صحيح أن عيبًا خطيرًا يخترق ثقة الناس بك، وهو أنك تعيش خارج سورية، ولكنهم يغضون الطرف عنه الآن، على أمل أن تعود في أقرب فرصة للبلد، وأن لا تبقى ثائرًا “خارجيًا”، وظاهرة صوتية فقط.

كان ذلك الطلب من الفتاة الحمصية وأهلها من الطلبات الأولى التي انتشرت، بعد ظهور الفتيات اللواتي خرجن في سوق الحميدية الدمشقي بثياب العرائس البيضاء، دون وجود شباب بجانبهن، وقد يكون ذلك ما نشط مخيلة الفتيات الحالمات بالحرية والمساواة والعدل، وبالعيش مع زوج يحترمهن لاختيارهن الوقوف بصف الحرية، وليس بالخنوع لزواج الصفقات الاجتماعية.

كان الموقف المحرج الثاني، الذي تعرضت له، قبل أن أتقدم باستقالتي من منصب “الإمارة”، أن أحد الثائرين، قد رفضته فتاة بعد أن عرفت أنه مسؤول تنسيقية جديدة، ظهرت في أحد الأحياء، وكان موسم التنسيقيات قد نشط بشكل مبالغ فيه، وبدأت تتكاثر كما يتكاثر الفطر، بعد أن سرت إشاعات، غير معروفة المصدر، عن تسرب العملة الصعبة عبر الحدود الدولية “بالشوالات”، ووصولها إلى بعض التنسيقيات. كتب الشاب: ذهبت أمي تطلب لي يد فتاة من أسرة محترمة، فسألت أم الفتاة أمي: هل ابنك قادر على إعالة أسرة، وما هو عمله؟ أجابت أمي، وهي أم عادية بسيطة، لا تحسب حساب ما خفي من أمور السياسة: لقد فتح الله عليه، وأسس تنسيقية جديدة لحسابه الشخصي، والأمور تبشر بالخير، إن شاء الله.

قال الشاب: أريد منك براءة ذمة، لأن الفتاة رفضتني، قائلة: إن طريقة تشكيل التنسيقيات، وأسلوب اتخاذ القرارات فيها، وانعدام الشفافية، يجعل من المسؤولين عن بعض هذه التنسيقيات مشاريع “حرامية”، وأنا، أي الفتاة، لا أريد أن أهرب من بين يدي حرامية “النظام”، لأقع بين يدي حرامي جديد يتظاهر بحمل علم الثورة.

وقبل أن أتمكن من كتابة جواب للشاب، لعدم قدرتي على تأكيد أو نفي ما ذهبت إليه الفتاة، كان قد مر عدة أشهر، خبا فيها لمعان التنسيقيات وتراجع حضورها، وطافت على السطح الثوري، أخبار تأسيس الكتائب والألوية والفيالق والجيوش والجبهات، التي تحمل رايات بكل الألوان، وأهم لون هو لون السلاح، وترفع شعارات طائفية، ردًا على الفيديوهات التي كان يسربها نظام القتل، والتي كانت تهدف لشحن حاضنته الاجتماعية بطائفية مقيتة، لحمايته من السقوط، حتى لو كانت تدمر الوطن والمجتمع.

عند هذا الحد؛ قررت الاستقالة من منصب الإمارة، فمن يريد أن ينتصر؛ لا يمكن أن يحكم عن بعد، ولا يمكن لأفكاره أن تجد لها مناصرين، في شوارع محلية غابت عنها التظاهرات السلمية، كما في بستان القصر وخالدية حمص، وأصبحت مليئة بكل أنواع الأسلحة، لا تكاد البراميل المتفجرة تغيب عنها، ولا يكاد الدم يجف منها حتى تسفك فيها دماء جديدة.. دماء الشعب السوري.


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون