“السيعة”



هو الليل من يقتحم وحدتي، ويفتح أبواب ذاكرتي وغرفها المؤلمة أحيانًا، والسعيدة أحايين قليلة.. غرفة ذكريات طفولتي تأبى أن تنهي متاعها، فهي مكتظة بسحر الحب المؤلم.

كنت في الخامسة من العمر، عندما قُرر لي أن أخوض امتحان سبر المعلومات الذي كان اجتيازه سيجعلني تلميذة إما في الصف الأول أو في الصف الثاني الابتدائي، مع أنني كنت لا أعرف ماذا يعني الامتحان، فكيف لي إذًا بمعرفة معنى امتحان سيقرر مصيري، ويأخذ سنة من عمري وأيامها الطفولية؟!

وهكذا كانت النتيجة، وعَبرت وبقفزة نوعية قيست بـ (365) يومًا ميلاديًا، وأصبحت فخرًا للعائلة.. دون إدراك واعٍ، أن تلك القفزة ستختزل الكثير من لهو طفولتي وحقوقها..

“تصوروا أن ابنتنا أصبحت في الثاني الابتدائي، بدل الأول، وبتفوق على دفعة سابري المعلومات”. تلك جملة أصبحت محل فخر، ترددت طوال سنة دراسية كاملة، ومن ثم استبدلت بأخرى، عند انتهاء كل عام دراسي: “نجحت بامتياز، وكانت الأولى على صفها رغم أنها (مسبقة) سنة”.

جمل متكررة استمرت طوال سني المرحلة الابتدائية والإعدادية، في حين أن تلك الطفلة، وقبل الامتحان المصيري ذاك، لم تكن تعرف من العلم إلا كتابة اسمها والأحرف الأبجدية وأسماء بعض الحيوانات وسورة الفاتحة، أما ما تبقى من العلم، فقد كان عند الله وعند الأهل، مقرري المصير!

هكذا، ورغمًا عن كل تلك الحقيقة، اجتزتُه وبتفوق فريد، ومنذ تلك اللحظات، وصولا إلى الثالث الثانوي، أنا أشعر أن مسؤولياتي أكبر من طاقتي، وأن لهوي أقل من حاجتي وطفولتي.

إن كل ما كتبته من سردٍ ممل، لم يكن إلا مجرد مقدمة لسرد قصة أخرى أكثر أهمية ودعمًا لمثل شعبي: “من شبَّ على شيء شاب عليه”. هي قصة فقر اللجوء الأرعن، التي لم ولن أنساها ما حييت؛ لأن حزن أحداثها ارتبط بمبدئي الإنساني الذي أثقل عليّ وجودي وأتعبه.

استيقظنا صباحًا على نهارٍ ثلجي جميل، ننتظر نحن -الصغار- نقاء بياضه لنكور كراته ونتراشق بها، بما يشبه سعادة الانتصار.. لكن ثلج ذلك اليوم الطفولي لا يريد أن ينحسر ببرودته، عن الجزء الذي وطّد فيه براثنه في ذاكرتي الأبدية.

ألبستني أمّي كل ما لدي من لباس صوفي، لتحميني من برد ذلك اليوم، وبعد الفطور وانتهاء برنامج (مرحبا يا صباح)، انطلقت بعتادي الإضافي (معطف وقبعة تغطي كامل الرأس والوجه عدا العينين، وقفازين وجزمة جلدية)، إلى مدرستي القريبة.

وصلتُ متأخرة، بعد ممارسة طقوس اللعب بكرات الثلج وتراشقها، مع من نعرف ومن لا نعرف. لم نحاسَب جميعنا لوصولنا المتأخر، فهو يوم استثنائي خاص للجميع، حتى إننا لم نصطف في باحة المدرسة لتحية العلم.

بعد أن تعرّينا من مدرعات الحماية التي جهزتنا بها أمهاتنا، وعدنا إلى هدوئنا شبه المعتاد؛ بدأ غناء الحصة النشاز الذي كنا نسمعه بطرب مدعٍ، رغمًا عنا، بصوت “ناجية خانم”.  وفجأة فتح أحدهم الباب، ودخل بسرعة..

“الحمد لله على السلامة، ست إيمان! سننتهي قريبًا، وحضرتك وصلت الآن؟! قفي، وجهك إلى الحائط، ويداك عاليًا، وقدمك اليمنى أيضًا، إلى أن تنتهي الحصتان، عقابًا لتأخرك”.

هكذا تابعت “ناجيه خانم” موشح صوتها النشاز بترانيم عقاب فاعل! في حين أجابت إيمان بأحرف جملة وحيدة مرتبكة: “والله، يا آنسة، طلعت السيعه ستة”.

كانت إيمان أمام عينيَّ المندهشتين، تنفذ حكم العقوبة الذي أصدره “هرقل الجبار” على طفلة عمرها ثماني سنوات! نعم، كانت تكبرني بثلاث سنوات، وقد التحقت بالمدرسة كالخدمة العسكرية متأخرة عن السن النظامي. لم يكن لدى أهلها ما كان لدى أهلي، وأهل أي من السوريين آنذاك، ليس لأنهم الأقل ثقافةً، أو لأنهم الأقل دراية بقيمة العلم والمدرسة لأطفالهم.. نعم، وللأسف، أنتم تخطئون باعتقادكم وشككم الأعمى؛ فقد كان وجعهم لا يعادل إلا وجع آباء أطفالنا في مخيمات اللاجئين السوريين اليوم! نعم، كانوا قد فقدوا وطنًا، وأصبح وطنهم الجديد مجرد خيمةـ لا تقيهم ألم التشرد ولا إنسانيتنا المتأصلة.

هل عرفتم من هي “إيماني” الآن؟ إنها طفلة فلسطينية من لاجئي هزيمة 67 التي لم أكن أعرف عنها إلا أنها حربٌ مع عدو سموه “إسرائيل”، أما فلسطين التي كانت -وكما علمونا ورددنا من خلفهم- قلب العروبة النابض، فقد كانت خسارتنا الأولى، وهزيمتنا الأولى مع ذلك العدو، أما إيمان.. فلم يشرح لي أحدهم قصة بؤسها، حتى “ناجيه خانم” تجاهلت حدث خسارة الحرب وآثارها الكارثية على هؤلاء الأطفال الأبرياء، وعاقَبَتْها بوحشية! هي أمامي الآن، أراها، ومن خلال دموع براءتي.. وجهها إلى الحائط، ذرعاها ممدودتان إلى الأعلى، رجلها اليمنى مرفوعة عن الأرض.. كانت ترتجف خوفًا.. حزنًا.. بردًا، ولكن من دون دموع الظلم، بينما “ناجية” تتابع إعطاءنا درس القراءة، غير مبالية بتلك الضحية.

كنت، بدِقة، أختلس النظر إلى تفاصيل ذلك الإنسان الصغير المعاقب: كانت بشرتها داكنة جدًا، وباعتباري لم أكن أعرف معنى اختلاف لون البشرة، فقد زادني ذلك حزنًا، فهي تحتاج إلى حمامٍ قاس يعيد لون بشرتها الطبيعي، وفي الخيمة حيث تعيش، ليس هناك إلا الجوع والبرد والموت.. قدماها عاريتان إلا من حذاء بلاستيكي يغرقه الوحل، بينما ألبستني أمي كل ثيابي الشتوية، في ذلك اليوم البارد.

تفحصتُ بحقد طفولي “ناجية الفاشية” وحركات شفاهها.. عندئذٍ، فقدت القدرة على فهم ما ينطق به من ترّهات وسخف، بعد أن جمعت لباس حمايتي الخارجي من البرد: معطفي وقبعتي وقفازي، وقفت بغضب مجنون، وبأسرع من البرق، اتجهت نحو “ناجيّة”، وبصراخ أقوى من عقاب سلطتها: “ناجييييه…إيمان حرااام!!!

بعد تلك الجملة الرعدية التي عصفتُ بها مسامع “ناجية”، وصلتُ إلى إيمان بسرعة البرق، في الوقت الذي أنزلتْ وهي تدور، أطراف جسدها النحيل.. وكردة فعل غير مدروسة على رفض ذلك العقاب الجائر؛ قامت بإدخال يديها وإحدى رجليها بتناوب سريع عفوي، إلى دفء معطفي، في حين تابعتُ إنقاذها من البرد، ووضعت قبعتي على رأسها، ولم يبق إلا القفازان اللذين لم يسعفني الوقت كي أُلبسهما لإيمان، لأن جرس الاستراحة قد أنهى ما نرتكبه من ذنوب، ووضع كاتم صوتٍ لـ “هرقلنا” الذي تناسانا، وذهب مسرعًا إلى غرفة المعلمات الدافئة، بعد أن توعدنا بمتابعة القصاص بعد انتهاء وقت الاستراحة.

في ذلك اليوم، سُمح لنا بالبقاء في الصف حول المدفأة، بسبب برودة الطقس الجليدي، أما أنا فقد عرفت، بعد تحقيق فضولي بريء، أن إيمان قد غادرت خيمتها: في “السيعه” السادسة صباحًا لتصل صف المدرسة، بعد اجتيازها العديد من حقول الصبار، في تمام “السيعة” الثامنة والنصف. (إيمان، وبلهجتها الفلسطينية، كانت تقول عن الساعة “سيعه”).

كانت جائعة، لم تأكل منذ أول أمس لعدم توفر ما تأكله هي وإخوتها، لأن والدتها كانت مريضة، ولم تستطع الذهاب إلى العمل؛ في حين أن والدها كان فدائيًا، ذهب إلى فلسطين، كي يعيد لهم أرضهم وبيتهم..

هذا ما عرفته بعد أسئلتي التي كانت تتناسب وبراءة فضولي.. بعد ذلك أعطيتها كل ما لدي من سندويشات ونقود، حيث كان مصروفي اليومي آنذاك ليرة سورية. كنت سعيدة بحزنٍ باكٍ، وأنا أراها كيف تأكل بنهمٍ شديد ما أعطيتُها من طعام، في الوقت الذي خبأتْ فيه النقود في جيب المعطف، كي تعطيها لوالدتها المريضة.

نعم لقد تسامحت معنا الأقدار، ومضى ذلك اليوم دون عقاب، لأن “ناجيه خانُم” المسكينة أصيبت بنزلة فقدان الحرارة الإنسانية المترافقة والنزلة الصدرية، وأعُطيَتْ إذنًا من الإدارة للعودة إلى المنزل هي وتلاميذها، في حين أنني لم أوافق على استرجاع ما أدفأ إيمان، فهي شبه عارية، وأنا مكسية وبجودة عالية جدًا.

هكذا عادت إيمان وهي تضحك، وتعدني أنها ستصل في “السيعة” المناسبة إلى المدرسة، لتأكل ما سأحضره لها كل يوم، بينما كنت أركضُ مسرعةً إلى البيت، وأنا أحمل معي سعادتي ودفء إيمان.. فقد كان إنجازي انتصارًا على “ناجيه خانم” الوحش المتخفي، وبإحكام منقطع النظير، إلا عني.

فتحت “أم تمام” الباب لي:

– ادخلي، ادخلي بسرعة إلى الغرفة، واجلسي إلى جانب المدفأة.. لكن.. أين معطفك؟!

– أعطيته لإيمان في المدرسة هو والقبعة و.. أكملت وأنا أبتسم: “ماما ناجيه مريضه مشان هيك راجعنا بكير”!

انتهيت من تخزين الحرارة اللازمة لأدعم تحقيق ما رسمتُه في مخيلتي، مخيلة طفلة لها من العمر خمس سنوات!

لقد تركت “إيمان”، ولكنها لم تتركني حتى لحظة تحرير ذاكرتي على أوراقي، واختياري المنمّق من الأحرف، لرسم جمال وعذاب ما صنعته في شخصيتي تلك الـ إيمان!  أمضيت عمرًا وأنا أخطط من أجل العطاء، حتى وإن أخذتُ إنما من أجل أن أعطي ما أخذته في الوقت المناسب.

طلبتُ من “أم تمام” أن تصنع لي فراشا صغيرة، وأن تخيط ثيابًا للعبة لي كانت عارية نتيجة الإهمال. “أم تمام” ولإسكات إلحاحي نفذتْ لي ما طلبتُ، لكسب الرضا، لأنني كنت ابنة أبي المدللة.

وضعتُ “إيمان” في فراشها الخاص قريبًا من المدفأة، بعد أن أطعمتها، وحضنتُها بغطاء شتوي سميك لأحميها من البرد، وغنيت لها: “يلا تنام.. يلا تنام ليحبك طير الحمام..  روح يا حمام وصدق إنك بيحضنا حتنام”. إلى أن مرّ يومي بسلام وطمأنينة.

“بعيدًا عن العنف والذبح والكذب، فقد كنت طفلة (حزينة وواعية) وأقرب إلى الحب وسلامه ولطفه!”. ولكن، ماذا كان بعد ذلك اليوم المأسوي؟!

لقد انتظرتُ إيمان أيامًا كثيرة ومتعاقبة، وأنا أحتفظ لها بما كنت قد وعدتُ دون أن تأتي… كنت أعود إلى البيت، وفي حقيبتي سندويشاتها، ومصروفي اليومي الذي كنت أحتفظ به -مجمّعًا في فترة غيابها- لأفاجئها ولتأكل هي وإخوتها دون أن تجوع، أو ربما لتشتري حذاء لها، أو لإخوتها أو بيجاما تغطي كل جسمها أو… أو…!؟

ولكن مرت الأيام والفصول، وأنا أنتظر (إيمان المدرسة)، وفي كل الساعات الصباحية إلى أن فقدت أمل لقائها، بينما زاد تعلقي بـ (إيمان البيت)، فهي قد أصبحت ابنتي وأستطيع أن أحميها من كل ما يؤذيها دون أن تغادرني!

في يوم من أيام الانتظار المتأمل، قبل تحية العلم والصعود إلى صفوفنا، أعلنت الإدارة، من خلال إذاعة المدرسة، عن استعدادها لجمع التبرعات من أجل مساعدة اللاجئين الفلسطينيين ودعم العمل الفدائي… سمعت الإعلان وكم حلقت وبفرح معه:

“سيساعدون إيمان ووالدتها وإخوتها، وسيدعمون الفدائيين” و.. (هذا يعني والد إيمان الذي بدوره سيعيدهم إلى فلسطين وإلى بيتهم بعد أن يربح الحرب ضد إسرائيل).

مضت ساعات المدرسة… رجعت إلى المنزل وأنا أفكر بطريقة ما للتبرع، ولكن بمبلغٍ كافٍ من أجل إيمان، لعل ذلك يعيدها إليّ.

طلبتُ من والدي التبرع، وشرحت له السبب، فلم يعترض وقد رحب بالفكرة، ترحيبًا لم يتناسب ورغبتي في مساعدة هؤلاء الجياع المشردين بلا وطن، فقد سمح لي بالتبرع بخمس ليرات فقط، ما اعتبرته مبلغًا يدعو للسخرية مقارنة بمصروفي اليومي، في الوقت الذي قررت أخذ المزيد، ولكن بأسلوبي الخاص… نعم، لقد قررت ارتكاب جريمة ما زلت أحاسب عليها حتى اليوم!

استيقظت في الصباح الباكر، قبل استيقاظ من في البيت؛ ثم دخلت على رؤوس أصابعي غرفة نوم والدي… بحثت عن بنطاله، ومن جيبه الصغير المخصص للنقود المعدنية، قمت بالتقاط خمس وعشرين ليرة، وبسرعة تفوق سرعة دخولي لارتكاب جريمة السرقة، ارتديتُ ملابسي ودون أن أتناول فطوري، ذهبت إلى المدرسة، وبفارغ الصبر انتظرت وصول المديرة لأسلمها المبلغ..

لكن، وقبل تحية العلم، أُعلن بشكرٍ، له ضجيجه المدرسي الفخم، عن المبلغ الذي تبرعتُ به، وأمام تلاميذ المدرسة الذين طُلب منهم التصفيق لجهودي الجبارة!

لم أفكر بعواقب جريمتي، فقد حققت هدفي وأوصلت المساعدات إلى اللاجئين والفدائيين، ولم أجد من يبرر لي جمال ما أقدمتُ عليه، إلا أنا!! لا سيما بعد أن عرفت أختي الكبرى من هو) حرامي البيت (الصفة التي حملتها بفضل وشايتها ومعرفتها، والتي لم تتوانَ بنقلها إلى كل من يمت لي بصلة)..

و… مضت السنون، وترسخت قضية فلسطين داخل خلاياي، أحترق باحتراق إمكانية استرجاعها، لأني منذ طفولتي وبسبب همجية ولا إنسانية “ناجية خانوم” التي كان يجب عليها أن تكون قدوة الإحساس، خلقتْ مني كائنًا متفردًا بإنسانيته، يبحث عن حلول في أعماقنا، وجذورنا الكاذبة، ولكن دون أمل.


سوسن سلامة


المصدر
جيرون