ثقافة الإقصاء “صديق عدوي، هو عدوي”



“من الممكن لمحنة الاستبعاد والإقصاء أن تسير جنبًا إلى جنب مع هبة التضمين والاحتواء”. أمارتيا صن

 كثيرًا ما تتكرر كلمة عدوّ في الخطاب السياسي والمحافل الاجتماعية، ونعتمدها في أحكامنا على الأفراد الذين لا يتوافقون معنا في الرأي، أو في لون البشرة، أو في اللغة والثقافة، أو في الدين، أو في الجنس، غير مهتمين لما يمتلكه هؤلاء “الأعداء” من صفات إنسانية، كالتي نمتلكها نحن تمامًا، والتي تجعلهم جديرين مثلنا بالحريات والحقوق، خاصة حرية الرأي والتعبير عن ذواتهم بالطريقة التي يريدون. صحيح أن لا محبة بلا بغض، ولا صداقة بلا جفاء وتجنب، ولكن العداوة شيء مقيت، وغير إنساني، يتصل بالنزوع العدواني المترسب من المراحل الهمجية في تاريخ البشر. فبقدر ما تكون ثقافتنا تمييزية وإقصائية وتسلطية على الآخر المختلف؛ يصطبغ خطاب الرجل للمرأة بألوان العداوة، ولا يتحرج بعض العلماء والفلاسفة من القول: “المرأة عدوة الرجل” اللدودة، وكذلك الخطاب النسائي، وعلى وجه الخصوص الصيحات المتوترة وشعارات تحرير المرأة من عنف الرجل الذي ما زال هو نفسه يرزح تحت عنف مجتمع يغذي ذهنيته بالذكورة، وهو يقبلها بدوره قبولًا غير مشروط.

فكرة العداوة الراسخة في مختلف الثقافات، تعود، على الأرجح، إلى وهم المركزية الذاتية، التي بموجبها تعتبر كل جماعة وكل أمة ثقافتها متفوقةً وذات قيمة معيارية، كالثقافة “الغربية” المقترنة بالمركزية الأوروبية، و”المعجزة الأوروبية” أو الثقافة العربية في البلدان متعددة الثقافات واللغات. وقد لاحظ علي حرب أن الاستبداد الثقافي هو أساس الاستبداد السياسي.

لو أمعنا النظر في عبارة (صديق عدوّي عدوّي) وبالتحديد في كلمة “صديق” المضادة لكلمة عدوّ في المعنى، وافترضنا أن كل من يعارضنا، ولا يؤمن بما نؤمن به، هو عدونا؛ لوجدنا أن ذاك العدو له من الأصدقاء ومن الحياة الزاخرة التي تتسع لكل واحد منا على أنه إنسان فقط، ويحق له ما يحق لنا من العيش والحرية في الخيار؛ بدءًا من الأصدقاء وانتهاءً بممارسة الحياة الطبيعية، اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا. فإن الثقافة المبنية على عدم الاعتراف بالآخر على أنه المختلف، هي –أيضًا- مبنية على عدم الاعتراف بالذات على أنها بالنسبة إلى الآخر هي آخر مختلف أيضًا. فمن لا يؤمن بالله هو عدو الله، ومن لا يؤمن بالإسلام هو عدو الإسلام، ومن لا يؤمن بالمسيحية هو عدو المسيحية، ومن لا يؤمن بالسلطة هو عدو الوطن، فهل تعيين الله مرهون بنفي من لا يؤمن به، وهل لا تتعين المرأة إلا بنفي الرجل، وهل من ضير أن يتعين الإسلام من دون نفي المسيحية مثلًا؟ من ثم تضفي هذه الثقافة تشويهًا على الشخصية الإنسانية، من خلال إضفاء بعض الصفات عليها إما صفة دينية أو صفة عرقية، أو صفة حزبية، فتصبح هذه الصفة مع مرور الزمن هوية.

لو قمنا باللعبة الآتية: صديق صديقي (صديقي)، صديق عدوي (عدوي)، عدو صديقي (عدوي)، عدو عدوي (صديقي)؛ لتبين لنا أن نسبة الصداقة ذات المحتوى الإنساني واحد من أربعة، وثلاثة الأرباع الباقية قائمة على المنفعة الأنانية، وأن ثقافة الإقصاء ثقافة ربع إنسانية.

حاول شكسبير أن يجعل الإنسانية تتخطى كل حدود الإقصاء والهويات الجمعية، وكل التوصيفات المهينة للإنسان في روايته (تاجر البندقية): “أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان؟ وأعضاء وأبعاد وأحاسيس وعواطف ومشاعر؟ ألا يأكل الطعام نفسه، وتؤذيه الأسلحة نفسها، ويتعرض للأمراض نفسها، ويُعالج بالوسائل نفسها، ويشعر بالحر والبرد، في الصيف والشتاء، مثله في ذلك مثل المسيحي”؟ بعد أن قّدم نظرة المجتمع البريطاني الإقصائية إلى المرابي (شايلوك)، وأسبغ على اليهود جميعًا صفة الجشع، وهذا ما أخذته المجتمعات العربية من الرواية؛ علمًا بأن شكسبير كان يريد القول: إن كل إنسان يتمتع بصفات الخير والشر، فلا تقتصر على شخص بعينه أو أمة بعينها أو دين بعينه.

ما يجري على الساحة السورية اليوم من تنافر الانتماءات المتعددة، ومن أشكال التعصب الذي هو “حقيقة بشرية؛ تتبدى بأشكال مختلفة، بعضها يهدد تماسك الجسم الاجتماعي ويبدد وحدته، بقدر ما يهدد شخصية الفرد، ذكرًا وأنثى، ويزعزع وحدتها”، حسب جاد الكريم الجباعي، التعصب الذي يولد العنف المادي والمعنوي، ليس إلا تكريسًا للنفور من الآخر المختلف التي تمارسه ثقافة الإقصاء، فالسلطة تستبعد المعارض لها، وتنكل به وتستهين بكرامة الإنسان، والمعارض يستبعد الموالي للسلطة، وينتهك حقوقه الإنسانية بالنبذ والشتم، والرجال يقصون النساء من محافلهم ومن المشاركة في صنع القرار. العلمانيون يقصون الإسلاميين، وهؤلاء يقتلون من يتوهمون أنهم أعداء الله، أفلا تسمى هذه الممارسة بالاستبداد الذي دفع الشباب والشابات في البلدان العربية للقيام بثورات، من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية؟ فأين كرامة الإنسان في رفضه ونبذه من قِبل الآخر، وأين الديمقراطية الذي يفصّلها كل تيار على مقاسه، فتضيق على مقاس الطرف الآخر، قبل أن تتأسس قواعدها الأولى، هذا الإقصاء المتعمد لا ينعكس إلا على الإنسان الذي هو أصل المجتمعات وروحها، والركيزة الأساسية في بنائها وتطورها وتقدمها، فالسير نحو الحداثة والنمو والتقدم يستوجب مشاركة الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الإثنية أو السياسية أو مكانتهم الاجتماعية، ويستوجب إعادة إنتاج وعي جديد، وعي خلاق يعيد تشكيل المجتمع المعني، بطاقات جديدة تحتوي كل الاتجاهات والاختلافات، وليس إعادة إنتاج لثقافة موروثة تعمل على تنمية الحقد والكراهية؛ بما يتنافى مع العدالة الاجتماعية التي تضمن لكل فرد من أفراد المجتمع حقه في العيش وتقرير المصير، في وطن يحتفي بالمواطنة المتساوية وعدم التمييز بين أفراده، يعترف بالآخر على أنه مختلف، ويعترف بحقوقه الإنسانية وحريته في التعبير والمعتقد، عليه من الواجبات اتجاه الدولة والمجتمع، بقدر ما له من حقوق.

وعي الذات هو وعي الوجود الإنساني؛ وبالتالي هو الطريق الوحيد إلى وعي العالم واستيعابه، لا بل لاحتوائه ومشاركته هذا الوجود، من هذا الوعي، نصل إلى مقولة أمارتيا صن: “من الممكن لمحنة الاستبعاد والإقصاء أن تسير جنبًا إلى جنب مع هبة التضمين والاحتواء”. هذه الهبة وذاك الاحتواء لا يجدهما الفرد إلا في استبدال الكراهية بالحب، والتعصب بالتسامح، والعنف بالسلام، وقد يعتبره البعض ترفًا ثقافيًا، لكننا نسعى إليه بكل ما لدينا من أمل وحلم بوعي جديد وثقافة جديدة.


أنجيل الشاعر


المصدر
جيرون