سورية المحتلة وسوتشي
4 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
كان اليوم الأخير في أيلول/ سبتمبر 2015، الذي شهد دخول روسيا العسكري أرض وسماء سورية، لحظة فاصلة في مسار الحدث السوري؛ إذ أنشأ دفعة واحدة واقعيْن: دعم الوجود الإيراني على الأرض السورية وإنقاذه من فشل كان على وشك التحقق من جهة، ونفخ روح اصطناعية في جسد النظام الأسدي المنهك، يمكن من خلالها للحكومة الروسية أن تشرعن بواسطته كل ما ستقوم به منذئذ على الأرض السورية، من جهة أخرى. ولهذا قدمت روسيا وجودها ونشاطها في سورية، بوصفه إسهامًا دوليًا في النضال ضد الإرهاب الذي كان قد صار مشجبًا تبرر به نظم الاستبداد في العالم العربي نفسها، أو تغلف به نظم الهيمنة الغربية مزاعمها وأكاذيبها وجرائمها في علاقاتها الدولية، ولا سيّما تلك التي تقيمها مع النظم العربية.
لأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية، لم يجرِ الحديث في أي مكان في العالم، بدءًا بالعالم العربي، عن احتلالٍ كاملِ الأوصاف لسورية. فقد استبقت روسيا الأمر بإنجاز تغطية دبلوماسية شكلية، قدّمها لها النظام الأسدي المنهار، تلته، من ثمَّ، شرعنة دولية آلية لحضورها المادي، بما أن هذا النظام ما يزال موضع اعتراف دولي في المؤسسات الأممية. شرعنة صارت من بعد لازمة في الخطاب الروسي مثلما صارت أيضًا، في الوقت نفسه، لازمة في خطاب النظام الأسدي تحت اسم “السيادة” التي تنتهك بصورة شبه يومية، على الأرض السورية أو في سمائها، من لم يكن يراهم، أي من قبل من لا ينتظرون إجازته.
لكن السوريين، خلافًا لمعظم من تصدى لتمثيلهم، الذين ما يزالون يتلقون قنابل وصواريخ الطائرات الروسية، أدركوا، منذ اللحظة الأولى، أنهم باتوا، منذ ذلك التاريخ، تحت الاحتلال الروسي بإرادة وتغطية “الرئيس المنتخب” وشركائه. احتلال يغطي احتلالًا آخر على الأرض، تقوم به قوة إقليمية تحاول استعادة حلمها الإمبراطوري القديم: إيران، بفضل شراذمها التي أتت بها من مختلف الدول بقيادة حرسها الثوري، ودعم وكيلها الحصري في لبنان وسائر المشرق العربي: “حزب الله”.
بدا كما لو أن أحدًا لم ينتبه لا إلى هذا الواقع الصارخ: سورية تحت الاحتلال الروسي، ولا إلى كل دلالاته: دولة تحت الوصاية، ورئيس برتبة وكيل حصري لقوة الاحتلال، لا يستخدم صلاحياته إلا للاستجابة إلى مطالب القوة التي يمثلها، ولا إلى ضرورة عدم التعامل، منذئذ، مع هذه القوة المحتلة إلا بصفتها كذلك.
لا شك أن روسيا فعلت كل شيء، كي تؤدي دورَين متزامنَين: فهي كقوة كبرى شاركت -وما تزال تشارك- إلى جانب الولايات المتحدة، في مؤتمرات جنيف لحل المسألة السورية، وسعت -وما تزال تسعى- منذ احتلالها سورية، إلى تنفيذ خطتها في الحل تحت غطائه بصورة تدريجية، بما يسمح لها أن تقود العملية السلمية، وأن تفرض طريقة وإيقاع خطتها وأهدافها. وهو ما جعلها، منذ البداية، تنفرد بتفسير مقررات مؤتمرات جنيف، آخذة على عاتقها تعطيل صدور أي قرار أممي لا يستجيب إلى، أو يمكن أن يعرقل، مساعيها من أجل أداء الدور الآخر عبر مؤتمرات أستانا، واتفاقات خفض التصعيد في مختلف المناطق السورية، وأخيرًا مؤتمر سوتشي الذي تريد له أن يكون تتويجًا وختامًا لخطتها. وهي، في كل ذلك، ما فتئت ترسل عددًا من الرسائل المشفرة، المتناقضة أحيانًا، كما لو كانت بالونات اختبار، مثل الدستور المقترح الذي نشرته خلال واحد من مؤتمرات أستانا، أو تصريحات مسؤوليها حول مصير بشار الأسد التي تنوس بين عدم التمسك به، وبين حقه في البقاء حتى الانتخابات الرئاسية القادمة، بل في ترشيح نفسه مجددًا..
هكذا، أمكن لروسيا أن تحقق ثلاثة أهداف في آن واحد: فرْضَ نفسها أولًا، لا كقوة محتلة كما هي بالفعل فحسب، بل، ومن أجل تمويه الصفة الحقيقية، كحَكَمٍ رئيس في مساري تقرير مصير الشأن السوري، الأممي في جنيف وفي مجلس الأمن، والخاص بها في أستانا؛ وفرْضَ إيران ثانيًا، دبلوماسيًا وعسكريًا، بوصفها القوة المحتلة الثانية التي تتيح لها التمدد وبناء القواعد العسكرية وإجراء التغييرات الديموغرافية التي تستجيب لأهدافها؛ وإدخال تركيا، ثالثًا، بوصفها قوة عسكرية وسياسية، ضامنة وشريكة في الحل السياسي. وبذلك، تم حتى الآن تقرير مسار ومآل الحل السياسي، لا في غياب النظام الذي حلَّ محله، أو بات مُمَثلًا في روسيا وإيران، بل في غياب كامل للشعب السوري الذي يجري العمل، في إطار مؤتمر سوتشي، على تزييف تمثيله على كل الصعد من خلال حشد غير مسبوق، لا في طريقة اختيار المشتركين، ولا في عدده الضخم الذي سيحول دون أي نقاش حقيقي حول مصير سورية، ولا في شرعية ممثلي الشعب السوري التي بات يقررها منظم المؤتمر والداعي إليه، وذلك في التفاف خبيث على مسار مرحلة انتقالية حقيقية، كان قد تحدث عنها بيان جنيف الأول، والتي لا بد، كي تستحق هذه الصفة فعلًا من أجل تقرير مصير مستقبل سورية، من أن تشمل عددًا من العمليات الرئيسة، مثل هيئة منتخبة تتجسد في مجلس تأسيسي، يضمن انتخابَ أعضائه، ضمن شروط مثلى، مراقبون أمميون، مطلقو الصلاحيات في مجال المهمة الموكلة إليهم.
تبدو روسيا اليوم، بعبارة أخرى، وكأنها تكاد تنجح في تفريغ -حتى لا نقول إلغاء- مضمونِ ومفاعيل البيانات والقرارات الأممية، التي وافقت عليها هي نفسها، لصالح صيغة جاهزة تنوي فرضها على المشاركين في مؤتمر سوتشي، ثم تقوم بعرضها على مجلس الأمن للمصادقة عليها، بوصفها الحل الذي وافق عليه الجميع!
كان هذا هو الواقع الذي عاشه ممثلو المعارضة على اختلافهم، من عسكريين وسياسيين، على اختلاف انتماءاتهم وارتباطاتهم أو استقلاليتهم. واقع يبدو أنهم لم يبدؤوا بإدراكه إلا مؤخرًا، بعد التصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين الروس، والتي تكاد تقول قرارات المؤتمر القادمة التي وافق عليها النظام الأسدي مسبقًا، بما أنها ستكفل ديمومته واستمراره، ونجاته من كل حساب على الجرائم التي ارتكبها خلال السنوات السبع الأخيرة بحق الشعب السوري.
في ضوء ذاك كله، ألا يجدر اليوم إعادة النظر جذريًا في الخط السياسي الذي اتبعته فصائل المعارضة على اختلافها في تعاملها مع الحلول الأممية المطروحة؟ ألا يجب أن يؤدي ذلك إلى أخذ كل المتغيرات التي طرأت على الحدث وعلى الواقع السورييْن بعين الاعتبار، وبالتالي البناء عليها، لا برفض حضور مؤتمر سوتشي فحسب، بل بحشد كل المنظمات الشعبية في الداخل وفي الخارج لرفضه، والبدء في توصيف الخصم الرئيس في هذه المعركة الذي بات يتجسد، لا في النظام الأسدي فحسب بل في القوى المحتلة الروسية أولًا وأساسًا، والإيرانية ثانيًا؟ ألا يوجب ذلك نظريًا وعمليًا، ودون إهمال الظروف الدولية والإقليمية، إعادة النظر في الحسابات وفي الخطط وفي الخطابات وفي المفردات من أجل الخلاص من الاحتلال أيًا كانت جنسيته، بدءًا بالاحتلال الروسي؟
بدر الدين عرودكي
[sociallocker]
جيرون