لقد سرقوني



أحد المثقفين العرب، صرخ صامتًا: “لقد سرقوني، سرقوا كلماتي ورغباتي”. للوهلة الأولى اعتقد السامع لتلك الصرخة المخنوقة، بأن هذا المثقف سُرقت قصيدته، أو سُرقت له فكرة من كتاب كتبه، أو من خاطرة نثرتها الريح.

سياسي عربي آخر صمت صارخًا: لقد سرقوني، سرقوا شعاري، كنت أحمله بيدي وأقبض عليه كالقابض على جمر، وعندما فتحت راحتي؛ وجدت شعاري وبرنامجي بيد أخرى، وعلى غفلة من فحوى ما فكرت واعتقدت، سرقوني، سرقوا رائحة حزبي ولونه، سرقوا الرجال الذين قضوا نحبهم، وهم يدافعون عن سقف البيت الذي بنيناه وشيدناه بجلدنا ودمنا.

ثائر عربي لاذ بالفرار من السجن والسجانين، ثم عاد وفتح عينيه؛ وإذ كل ما يملك من أحلام أصبحت في فراش جلاده، حرزًا معلقًا في رقبته! “الحرية” التي تلوّى قلب الثائر وروحه بها ألمًا، بين سجانه وسجونه، أصبحت شعارًا على علب الهدايا، وعنوانًا لشعارات المستبد، وتأتأةً لوزير تفاجأ بموقعه أكثر منا.

الثائر العربي وجد حريته الثكلى شعارًا معلقًا في أقبية التعذيب، الثائر الذي ما زال مختفيًا بين دفء أمه ولمعان سلاح قاتله، أقسم قسمًا مثل حد السيف: إنهم سرقوني، سرقوا أغنيتي الثورية، سرقوا (أحن إلى خبز أمي) وسرقوا (رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني).

المثقف والسياسي والثائر والمفكر… تمت سرقتهم، وجُردوا من ملازمهم الورقية، التي لفها اللون الأصفر وهي مخفية بين غبار الزمان والأمكنة، المثقف والسياسي والثائر والمفكر أصبحوا تائهين على قارعات الطرق، يبحثون عن شعارات جديدة، غير قابلة للسرقة وغير قابلة للحياة. أكلتهم الأيام والحرمان، كما يأكل الجوع الفم، تملّحت مآقيهم وهم يحدقون بأشيائهم التي سُلبت من أرواحهم ودفاترهم.

2

إذا كان لنا ذاكرة غير ذاكرة السمك، ونستطيع أن نُبحر في ثمانينيات القرن الفائت الذي لم يفت بعد، وإذا كان لدينا استطاعة في استرجاعها؛ فسنجد أن شعارات الليبرالية غير المبتذلة هي لنا، وشعارات المقاومة والممانعة الزائفة الآن، هي للذين لوحقوا من المحيط للمحيط.

مَن كان يريد حرية المرأة؟ ومن كان يريد انتخابات حرة ونزيهة؟ ومن كان يريد حرية التعبير؟ ومن كان يريد كل هذه الكرامة والحرية والتقدم؟ ومن كان يريد الدولة المدنية والمواطنة الحقة وسيادة القانون، سوانا؟

وبالمقابل من يزج بأصحابها بين الرغيف وحجر الرحى سواهم.

المثقف، السياسي، والثائر سُرقوا، وهم لا يدرون حينًا، ويدرون حينًا آخر.

انقلب السجان على المسجون، بسرقه أيامه وأفكاره وأحلامه، وانقلب المثقف والسياسي والثائر على أنفسه، وهم يرفضون كلمات وأفكار وشعارات هي لهم، صنعوها بأيديهم وعبؤوها بفوهات بنادقهم. الشعارات الليبرالية وشعارات المقاومة والحرية، هي لنا، لمن أوجدها واكتوى بنارها وفقد نفسه وأعزاءه من أجلها. إن التقدم والعلم كمنهج، أبجدياتٌ أضرمت بها النار من قبل المتبجحين بها الآن، في أروقة المؤتمرات وصفحات الفضاء المتلفزة.

عُد أيها المثقف.. أيها السياسي، عُد أيها الثائر، إلى حيث الكلمات الأولى، والأيام الأولى، لو حمل أعداؤك الشعار ذاته والكلمات ذاتها، عُد لأنهم سيتركونها على حين هروب ما، أو على حين أمر ما يأتيهم من أي سيد يتبعونه، عُد أيها الثائر المثقف. السياسي للحياة التي تنتصر لمن يمضي قدمًا.

3

المستبد كاذب مراوغ حرباء، مهمته قتل الكرامة والحرية، مهمته أن يجعلك تصفق وتمدح وتكتب الأهازيج، لكرسيه ولعصابته وفساده وقتله، باسم الدفاع عن قضايا لا يحترمها، وليست في باله أصلًا.

أيها المثقف، كن أنت وانتمِ لشعبك لقضيته ولتاريخك، ومُثلِ التنوير التي لا تكون ولا تتحقق بلا كرامة وحرية. لا تدع المستبد يسرق كلماتك وشعاراتك وأحلامك؛ ثم يقتلك.


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون