الانتفاضة الإيرانية وثلاثي الخراب السوري



دخلت الانتفاضة الشعبية في إيران أسبوعها الثاني، وسط تكنهات وقراءات تقترب من حقيقة المشهد الإيراني القائم اليوم، وتبتعد عنه بحسب الآمال والتمنيات، ومواقف القوى الإقليمية والدولية التي ما تزال تتسم بالحذر، من اتخاذ موقف جذري، بسبب الغموض في تفسير الحالة الإيرانية، وهو ناجم عن أحادية التفكير تجاه قضايا المنطقة، والتعامل معها وفقًا لمبدأ حماية المصالح، لا التعاون فيما يخص المصالح المشتركة للشعوب، والتي تبقى هي العامل الحامل للمجهول، الذي لا يمكن تنميطه وإخضاعه وكبت تطلعاته، لأمد غير معلوم. التطورات الجارية في إيران هي خروج عن الصورة النمطية التي كوّنها الغرب، وغيره، عن خضوع الشعب الإيراني لحكم الملالي، خضوعًا مسلّمًا به، لا جدال فيه.

وبعيدًا عن مواقف القوى الدولية، فلكل دولة حساباتها ومواقفها وأجنداتها، فإن ما يجري اليوم على الساحة الإيرانية، حدث خارج عن المألوف، لكنه ليس جديدًا على إيران. فقد شهدت عدة انتفاضات خلال أقل من ثلاثة عقود في ظل الثورة الخمينية، تجلى أهمها في الثورة الخضراء 2009، وهذا مؤشر مهم يدل على توفر مقدمات الانتفاضة الشعبية، وأنها لم تأت من فراغ. وأن محاولات التمرد الشعبي على مصادر قراره من قبل عمائم قم، لن تنطفئ على الرغم من قسوة أساليب التصدي لها، وإخمادها بالدم والاعتقال والتغييب. وفي كل مرة، كان هناك سبب رئيس لتلك الانتفاضات، ولم تكن قضايا الفساد والفقر وحدها عاملًا جوهريًا في تفجر بركانها، كما يحدث اليوم، فالمسألة الديمقراطية، وحرية الاختيار طبعت الثورة الخضراء، وبالمجمل فإن قضية الحرية هي سبب أساس في كل احتجاج شعبي مطلبي.

لسنا في وارد التفاؤل أو عدمه، حيال ما يجري في المدن الإيرانية، لكنه بلا شك، حدثٌ نعلّق عليه -كسوريين- آمالًا كبيرة، بما يقود إلى تخفيف وطأة الحرب التي يشنها ثلاثي الخراب: (الأسد، خامنئي، وبوتين) ضد الشعب السوري، منذ سبع سنوات. وإن نظرة موضوعية إلى المشهد تقودنا إلى الاحتفاء بتطوراته، لسببين أساسيين: أولهما أن ملالي طهران كانوا سببًا رئيسًا في المواجهة الأمنية الدموية، التي طالت ثورة السوريين ضد الاستبداد الأسدي، ونتيجة مباشرة لتدخلهم السياسي والأمني والعسكري، فإن مسؤولية نظام الحكم الإيراني، مشتركة في إراقة الدم السوري، لما يقرب من مليون ضحية، وما يزيد عن ربع مليون مغيّب قسريًا، وتشريد نصف الشعب السوري.

هم أيضًا مسؤولون مباشرة عن سياسات الاعتقال والاستجواب والتعذيب والقتل التي تجري في السجون والمعتقلات السوري، من خلال الاشتراك الإيراني في إدارة المؤسسات الأمنية وتوجيهها، ونقل الخبرات إليها، على الرغم من خبرة النظام الأسدي الفائقة في التعذيب، وانتزاع الاعترافات، وفي الملفات الأمنية التي تشيد بها دوائر المخابرات الغربية.

السبب الثاني هو قضية الانتفاضة الإيرانية، التي تطورت من احتجاج على عمليات فساد طالت المواطنين الإيرانيين، وتستر الدولة على ذلك، إلى المطالبة بالحريات، وتحدي سلطة الملالي، على الرغم من سطوة الحرس الثوري وقوات الباسيج، ومقدرتهم البشعة على مواجهة أي تحدّ جماهيري، لسلطات الولي الفقيه وأعوانه. وهذا سبب يلتقي تمامًا مع تطلع السوريين إلى الحرية، ويمكننا أن نحتفي بها وفق هذا السياق، وإنْ كان يُشار إلى تضخيم في الأحداث، والتركيز على صورة دون أخرى، مثل إبراز تمرد الشابات على الحجاب. لكن ذلك لا يشذّ بنا عن المسار الأساسي لحركة الاحتجاج، الذي يشبه كثيرًا ما حدث في سورية، وفي بلدان الربيع العربي، في مراحله السلمية، قبل أن تواجه الأنظمة المتظاهرين العزل بالسلاح، وتقتلهم كما يفعل “الباسيج” اليوم، بالشعب الإيراني.

نريد للانتفاضة الإيرانية، بوعي وإدراك عميقين لمعنى ذلك، أن تمضي قدمًا، وليست قضيتنا أن تطالب بإسقاط النظام الاستبدادي الثيوقراطي المتسلط على رقاب الإيرانيين، بل قضيتنا هي دعم أي حركة شعبية تطالب بالحريات والحقوق، لأن تقدم الانتفاضة واستمرارها، سوف يحقق جملة من المكاسب والمعطيات، سوى أنها ستعزز موقف الشعب الإيراني بمطالبه، فإنها سوف تقود إلى خلخلة استقرار نظام الدولة الإيراني، وهذا ما يصبّ في مصلحة الثورة السورية، والمنطقة العربية التي تقع ضمن مظلّة الهيمنة والتهديد الإيرانيين.

بالتأكيد لن يكون انعكاس الأحداث -في حال استمرارها– انعكاسًا سريعًا أو مباشرًا، وفي كل الحالات، سوف يعمد النظام الإيراني على تشديد مسلكه الأمني، واستخدام أشد الأساليب شناعة، في سورية، وفي إيران. النهج الإيراني ضد الثورة السورية، مُستقى من تجارب القمع الدموي ضد الحركات المناهضة لتسلط الملالي على الشعب الإيراني، وما قامت به إيران في سورية سوف تعيد القيام به إيران، مستخدمة التجارب التي نفذتها ضد السوريين. غير أن مواجهة كهذه في بلدٍ مترام الأطراف، تعداده 75 مليونًا، متعدد الأعراق واللغات والديانات، ليس أمرًا هينًا، مهما بلغت قدرة السلطة، وإمكاناتها في التحدي والمواجهة. وسوف تترك تداعيات الانتفاضة أثرًا مباشرًا على السياسة الخارجية الإيرانية، لا بد أن يطال القضايا الإقليمية في المنطقة، ولا سيما القضية السورية، والتحالف الإيراني مع كل من موسكو وأنقرة، وهو تحالف مرحلي، سوف تعمل على الإفادة منه قدر المستطاع، لخلق توازن في الاستقطاب الداخلي والخارجي، الذي سوف تجد فيه نفسها، في حالٍ أكثر إرباكًا، نتيجة الغموض أيضًا في مواقف الدول الكبرى، والتي يهمها من الأحداث الجارية تحقيق المزيد من الخطوات في احتواء طهران، وإبقاء مراكز القوى الأساسية للجيش والسلاح، بما فيه مشروعات التسلح النووي، تحت سيطرة الدولة، دون أي اعتبار أو قيمة للثمن والتضحيات التي سوف يدفعها الإيرانيون في انتفاضتهم من أجل الحرية والكرامة.

الثورة السورية حاضرة في إيران، ويجب أن تكون حاضرة، ليس بمعنى التدخل، ولكن بمعنى أن السياسات التي أدت إلى قهر السوريين، هي كأس تدور اليوم على شفاه القتلة في طهران وشركائهم في دمشق، وفي لبنان، وفي كل منطقة تئن من وطأة التسلط الإيراني.


عبد الرحمن مطر


المصدر
جيرون