في الشرارة والهشيم



الذين يؤمنون بالقدر المكتوب على جبين الشعوب يفتحون كتب التنجيم، ليرصدوا حركة المذنبات والنجوم، التي شرعت تظهر ذيولها في سماء دول العرب، بُعيد منتصف أول ليل من قيامة الجماهير باتجاه العروش، ثم باتجاه الحيطان، تنطحها فتسقط هي، ثم تنطحها فتسقط هي، ثم تنطحها فتسقط هي، ثم تنطحها فتسقط هي والحيطان على الرؤوس! يضعون خلف آذانهم أقلامًا من ماركة “باركر” وبين أصابع يُمُنِهم مثيلاتها من ماركة “صاركر”، ويشكلون سبابات يسراهم المحناة بالطلاسم والرموز، في مقدمات شفاههم ومفتتح أفواههم، ثم يبحلقون في القبة الزرقاء:

هناك إشارة في برج القوس –يقول شيخ المنجمين عياض بن بياض- ظهرت مثيلتها أيام شباب سيدنا نوح عليه السلام، وذلك قبل حدث الطوفان بستة أشهر… الآن إذا تحركت هذه الإشارة ذات اليمين، فنحن على الأرجح أمام فشل مريع لما يسمى انفجار الجماهير، لأنها لن تستطيع أن تصل إلى ما تريد، ولا تعرف ماذا تريد، ولأنه من ناحية علم النجوم يقف في وجه تلك الإشارة من جهة الشرق مخمس الدب الأصغر، ومسدس الدب الأكبر، اللذين يعوقانها فلا تأخذ السمت الصحيح. وإذا تحركت ذات اليسار؛ فسوف تكون بين نارين: نار أشعلتها هي، ونار تشعلها بقايا حطام قديم مرافق لبرج الغضنفر، فإن نجت من هذه شوتها تلك، وإن تخلصت من تلك كوتها هذه. فإن لم تتحرك لا ذات اليمين ولا ذات الشمال، بل بقيت صامدة معاندة في خط مستقيم، فهي على الأرجح ستنجو من احتمال أن يركبها ساسة من برج التيس، وهي عندئذ مرشحة أن تفصل للجماهير بدلة الديمقراطية، وإن كانت ما تزال واسعة عليها أكثر من نمرة، ولم تتعلم بعد كيف تتحرك أو تمشي أو ترقص بها، لكن ببضع دورات أعراس انتخابية، وبضع دروس في المشي الموزون، وصعود الدرج حلجًا بالرجل اليمين. وسوى ذلك من رياضات وتمارين؛ يمكن أن تعتاد عليها بإذن الله.. والله أعلم.

والذين يؤمنون بعلم نفوس الشعوب يبدؤون من حكاية الشاب التونسي الجامعي “بوعزيزي” الذي دلق على نفسه سطلًا من البنزين الممتاز، ثم بعناد الفقير المحروم، وغضب المتعلم المظلوم، وإحساس الذكي المهموم، أشعل عود الثقاب، وقذف بكل شبابه وجماله ومشاريعه وأحلامه وكتبه إلى بوابة العدم الرهيب! يقول أحد هؤلاء:

هل كان يعلم ذلك الشاب، أن الحريق الشخصي المجنون، هو نفسه سيكون بوابة الدخول إلى عصر حرائق الغابات والأراضي البور، الذي لم يكن بحاجة إلا إلى بداية مثيرة، فكان ما لا بد أن يكون؟

وهل كانت تلك الشرطية التونسية التي مثلت دور السلطة الغشوم، تعلم أن تلك الصفعة على خد بوعزيزي، ستكون هي وليس غيرها، أهم صفعة في تاريخ شعوب المنطقة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وبالتالي ستدخل هذا التاريخ، من باب صدق أو لا تصدق! إن صدقت فأنت مجنون! وإن لم تصدق فأنت أيضًا مجنون؟؟

ربما أن الشعور الجمعي السلطوي العربي المستبد، هو ما حرك كفها فصفعت! واللاشعور الجمعي العربي المقموع، هو ما سحب قشة الكبريت من كمونها، وأشعل ظهر البعير التونسي، الذي تحول بسرعة الشوق وحماسة الشباب، الذين يحملون علب الكبريت في جيوبهم منذ فجر الاستقلال، إلى شعلة أولمبياد عربي، تنتقل من هشيم إلى هشيم، ومن عفن إلى عفن، لتنهي زمنًا وتفتح زمنًا.

وهنا يمكن أن نتعثر بنظرية المؤامرة ونظرات دعاتها، المجمعين على أن الزمن العربي لم يحن، والظرف العربي لم يَئن، والشعوب العربية لم تجهز، بل لا تليق بها الحرية في الأساس، ولا تصلح لها الديمقراطية أكثر مما تصلح لأنظمتها الأبدية، وهي لا تفهم –بالعربي الفصيح– إلا بلغة العقاب ودعس الرقاب! أما أولئك الذين يحركون الثورات العربية، كما تحرك الأيادي الخفية كركوز وعيواظ، ليضعفوا أنظمة العدالة والبحبوحة، فديننا غير دينهم، وهمنا غير همهم، وكمنا غير كمهم، وعاداتنا وأعراسنا وعرساننا… إلى آخر الأفراح. نحن شرق وهم غرب، والشرق شرق والغرب غرب. لا نظامنا نظامهم، ولا ترابنا ترابهم، ولا تراثنا تراثهم، ولا عقولنا عقولهم، ولا ما يثلج صدورنا يثلج صدورهم… وكان بود هذه الجوقات من المغردين على أفنان النظام العربي، أن يضيفوا أنّ شعوبنا ترفل بدمقس الحرير، وتتكئ على أرائك مريحة من الأمن والأمان لا تعرفه أوروبا، ولا تحلم بمثله أميركا، ولا يخطر في بال أبالسة باريس.

تعالوا انظروا أيها العميان –يقول مفكرو الأنظمة العربية- كيف ننام أخت تلك النومة التي نامها أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب تحت الشجرة! وأبوابنا مفتحة، وشرفاتنا مشرعة، وساحاتنا آمنة، وموائدنا عامرة، حتى آخر شعرة في ذيل هذا الليل…

متناسين عن عمد وقصد ونفاق فقدان الجيل العربي، لأدنى حقوق الحيوان في المأكل والمشرب والمنام، في الوقت الذي تحتار معه سلاطين الشرق الميامين في أي قصر تنام، وفي أي مطعم تأكل، ومن أي سوق إمبريالي تلبس، كما أنها تحتار ماذا تترك وماذا تأخذ وماذا تختار من آثار الشرق العريق، وتحتار أكثر أين ستضع أرصدتها النقدية التي حصلتها قرشًا فوق قرش، وليرة فوق ليرة، من كد الجبين وعرق الزندين، من دون أن تفكر لحظة واحدة بشقاء الدولة التي تحتار كيف تستطيع أن تقوم. ولماذا تفكر وتتعب رأسها، ما دامت الدولة تمشي على حالها، وترعى على حالها، وتنام على حالها، شأن أي بقرة حلوب.

ليس هذا فحسب، بل سيروج المروجون، ويتشدق المتشدقون أن كلمة “ربيع” التي أطلقت على الرعاع وشاربي حبوب الهلوسة والجرذان، هي في حد ذاتها إهانة لفصل الحب والتناسل وتجديد دماء الحياة في عروق الحياة! فأي ربيع هذا الذي سيجلبه “المخربون”! إذا كانت أمطاره دماء، وسيوله جماجم، ورعوده انفجارات؟ وأي حب سيجلب إن كان نهاره بواريد وليله عفاريت، ونداه يستنبت الأحقاد ويستبعثها من القبور، بعد أن كانت دفنتها أنظمة العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص تحت سابع أرض؟ وأي نسل خضراوي العيون سيأتي بعد هذا الخصاء التعصبي الأعمى الذي يروج له دعاة الانقسام والتقسيم والاستسلام والانهزام، أمام المؤامرة الكونية التي رسم أبعادها بالطبشور الملون دهاقنة الاستعمار، ورقصت على أنغامها ذيوله في الخليج العربي؟ أي ربيع وأي انبعاث وأي تجديد وأي حياة وأي مستقبل، إذا صارت البلدان التي كانت تصلي على كف الرحمن، تريد أن تلعب البوكر على كف عفريت مجنون سكران؟!


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون