العيون التي رأت الإمبراطور



عندما رأى صورة جيروم (أخي نابليون): أنا أيضًا أرى العيون التي رأت الإمبراطور.

حدث هذا في الصورة التي أطلقتها الممثلة “رنا أبيض” منذ فترة، محدثةً زلزالًا، داخل صفحات التواصل الاجتماعي التي علّقت، وسخرت، وشتمت في أحيان كثيرة عجرفة وادعاء الممثلة، وملامح انعدام الإنسانية المرسومة فوق وجهها، المرئية في نظرتها.

الجمهور وأصحاب التعليقات، اتجهوا بعيدًا عن الحكاية التي أراد المصور أن يرويها عبر تلك المفارقة، ليسير الجميع في ركبٍ واحد متراصين مسلّمين بما يناقشه الظاهر، أو بما يطفو على السطح، وليقارن الجميع مقارنةً واحدةً، بين مجموعة صور رأى فيها محض فنانة، وقفت تستعرض جسدها وأحمر شفاهها وثيابها، قرب الفقراء بزيهم الفقير ذي الألوان الباهتة، وبين الممثلة الأمريكية أنجلينا جولي التي سبق أن زارت مخيمات اللاجئين السوريين بثياب بسيطة، وشعر مغطى بوشاح أسود، ووجه يكاد يخلو من أي مساحيق أو زينة.

ردد الشعب شعارًا واحدا كما اعتاد دومًا، منتفضًا بصوت واحد في تعليقاته ونكاته، ساخرًا منددًا بمشهد يكاد يتفرّس وجهه كل صباح ومساء، أثناء ذهابه إلى العمل أو الحديقة أو المقهى أو السوق، دون أن يلقي التفاتةً صغيرةً إلى تلك الوجوه، لكنه عندما رأى نفسه وجهًا لوجه في الصورة وقف عاريًا حزينًا، ليس في استطاعته مواجهة نفسه سوى بالاستنكار والمزيد من الاغتراب.

دعونا نقود الصورة إلى حقيقتها، بوصفنا قرّاء أولًا، قبل أن نترك لها مساحة من الحريّة والوقت، كي ترينا بأم أعيننا المكان الذي تريد أن تسحبنا إليه، القصة المحاكة الواقفة خلف التركيب المتقن للشكل والحركة واللون والنظرة.

لنبدأ بخلفية الصور التي جاءت كنظرة “المنيكان رنا أبيض“، غير المبالية والمشوشة والغريبة الأطوار، قياسًا بالشخوص الذين يقفون قربها. لم يكترث المصور بالخلفية والمكان، بقدر اهتمامه بالحركة والنظرات والألوان، وكأن الديكور ليس مهمًا، ولن يضيف شيئًا إلى الطبيعة، الإكسسوارات ليست ضرورية للفقراء، استبدل المصور الديكور بالألوان الصاخبة والنظرات الحادة، في مجالٍ غير قابل للشك على صناعة العمل وإخراجه تقنيًّا، كانت الغاية أن يصمت من سيشاهدون الصور، وكأنهم يصرخون أمام المرايا: أحقًا هذه هي صورتنا؟

لعبت الفكرة على مفارقة بدهية تجلب تلك الصدمة المدويّة، وتحقق ذاتية الحالة بكل ما تحمل من ثورة وانفعال! لو افترضنا أن المانيكان لم ترتد سروال الجينز الممزق، وأنها لم تقف بذاك الوجه الصخري العابس في وجه الكاميرا، ولو لم تتلّون وجوه الأطفال بمسحة المعاناة والفقر، أي لو أنها كانت صورة خارج هذا السيناريو المتقن، أكانت لتحدث ذاك الأثر؟

لو كانت لقطةً عابرةً لممثلة تمدُّ يد العون والمساعدة للمحتاجين، أكانت ستوقظ في أذهان الآلاف حقيقتنا القاسية، كبشر تناسوا واقع المشردين والفقراء، واعتبروا وجودهم طبيعيًا، كإشارات المرور أو عواميد الكهرباء؟ ولو افترضنا أنها ظلت قصةً مجهولة عنا لم تخزنها صورة ولم يسمع بها أحد؛ أكان بوسع الجماهير أن يتلمسوا مشاعرهم الإنسانية المنسية؟

في إحدى الصور، تعمّد المصور أن تقف المانيكان، وكأنها المجتمع، بنظرة قاسية غير مكترثة بالأطفال قربها، تمسك طفلة بيد واحدة، تبدو الطفلة متعبة وتبدو يد الممثلة التي تحملها لا مبالية، وكأنها لا تمسك شيئًا! المحمول/ الطفلة متعبة مكسورة وفي عينيها دمعة تبرق، الحامل/ الممثلة لا مبالية قاسية تحدق فقط في عدسة الكاميرا، وكأنها تمثال لا يشعر بمن هم حوله.

لجأ المصور إلى نحت المجتمع وعرضه بصورته الحياتيّة اليوميّة، لكن هل تحققت الصدمة التي أرادها بعيدًا عن “رنا أبيض”؟ كامرأة تعمل في مجال التمثيل، والشهرة -بالنسبة إليها- هي صورتها المفضلة؟ هل قادت ردّات أفعال الجمهور الغزيرة والمنتفضة على ذاك الفعل، إلى تذكير الناس بالفقراء والمشردين كي لا ننساهم؟

هل المفارقة المتعمدة المصنوعة بعناية من قبل المصور حققت غرضها وقصدها، وذهبت إلى أكثر مما كانت ترمي، أم أنّ النتيجة انحصرت في شخصية “رنا أبيض”، كممثلة لها حضورها، ولكنها غدت الآن على القائمة السوداء في قلوب جمهورها، واكتفى الناس بالتنديد بتصرفها واعتباره منافيًا للأخلاق؟ هل قرأ الناس ما هو أبعد من” المانيكان والسكوب” الذي صنعته الصور لاسمها؟

اللغة المفارقة التي استخدمها الناس في تعليقهم، تشبه إلى حد ما الآليات الذهنية النفسية التي حققت مفهوم الصورة، كبناء وعمل وغاية؛ حيث ارتدت الممثلة في الصورة سروالًا من الجينز الضيق والممزق، تعمّد صناع العمل أن ترتدي الممثلة زيًّا مختلفًا أشد الاختلاف عما تتوقعه بديهتنا عن ممثلة ستتصور مع الفقراء، بينما اكتفى المشردون بلباسهم الشتوي الفقير.

أبقى المصور نظرات الفقراء طبيعية كما هي، وإن كان قد تدخل في بعض الحركات الواضحة، كحركة الشاب في صورة تقف فيها “المانيكان” في الوسط، الشاب يطأطئ رأسه كمالك الحزين، لتمتد يد الممثلة فوق كتفه، تقودنا هذه الحركة إلى صناعة لا لبس فيها لتلك اللقطة، فالمجتمع متمثلًا بـ “الممثلة المانيكان” يقف متحجرًا وسط آمال ارتسمت في حركة ونظرة الناس الذين ينتظرون الطيران.

ولم يصدح الجمهور خارج السرب، كما هو المعتاد أيضًا، مشت الصورة في نسق والقراءة في نسق آخر، لكن النتيجة كانت ما أرادته الصورة أن يتحقق وأن يكون، والسؤال انطلق مدويًّا.

يقول الفوتوغرافي “جيري أولسمان”: الكاميرا هي أسلس طريقة للوصول إلى حقيقة أخرى.

صنع المصور مفارقته، عبر تلاصق وتقابل حالتين شاذتين بعيدتين عن بعضهما البعد كله، الممثلة كهويّة واسم معروف وأولئك الذين لا هوية لوجودهم سوى الفقر؛ ما أدى إلى النفور العام الذي ساق -بالضرورة- إلى رؤية الصورة من جانب واحد، ولكن حتى هذا الجانب لم يبتعد كثيرًا عما أرادت الصورة أن تقوله، وهو أن المظاهر غلبت واقعنا، وطغت على رؤية الهمشين كمهمشين كحقيقة كواقع.

قامت الصورة ودعمت بنيتها وعناصرها كصناعة لخدمة غرضين في آن واحد، الأول صَفْع المجتمع بقوة يفيق بها شعوره المخدر تجاه من أصبحوا اعتياديين بالنسبة إلينا، ليبدو التعامل مع الطبيعي بإنصات مغاير يحرك الطبيعي الكامن في داخل المجتمع، كي يعيد ترميم ذاته المحايدة.

أما الغرض الثاني فينقسم إلى شقين: الأول يذهب إلى إحداث هزة على الصعيد الجماهيري، تجعل الجمهور مشحونًا وغاضبًا ومستنكرًا اللامبالاة الكامنة في داخله، كأن المرء يخاطب نفسه ويشتم نفسه، عندما يقترب من صورته الحقيقية. والشق الثاني أظنه خدم “نجومية المانيكان”، وجعلها تحيا وتلمع كممثلة في دور دراميّ، لم يسبق أن ذاع صيته أو أن حقق لها نجاحًا كهذا.

يخبرنا نيتشه: أن تجربَ شيئًا كمعنى جميل؛ من الضروري أن تختبره بشكل خاطئ.

ولو تكومت فرضيات أخرى تعي قراءة الصورة؛ فإن هذا بدهي ومن صلب الفن، طالما أن الموضوع قائم على التلقي، فلكلٍّ منا وجهته وذائقته ووعيه وتفكيره. لكن مضمون الصورة وجوهرها –على فرض أنها لم تُصنع ولم يُخطط لها المصور، ولم يتمّ اتفاق مبرم بينه وبين الشخوص في الصور، وأن العمل محض صدفة جاءت بتلك الهيئة- يعطيانا بداية شيفرتها، بوصفها ناطقة مكتملة واضحة، وكونها إنسانية في بعدها ومراميها.

أطلقت الصورة الخطاب بعيدًا عن قصديّة صُنّاع العمل، فالفكرة هنا قائمة حاضرة بموضوعها الخاص، وإنْ جاءت القراءة عكسية وابتعدت عن المضمون، وإن كان المشهد منفلتًا من خيارات المصور.

الممثلة/ المنيكان، لمحة مصغرة للمجتمع، باردة جامدة في وقفة غير متوقعة قرب الوجوه الهادئة الصامتة، لا تعاطف لا تسامح لا رأفة ولا حب. منيكان يقف دون أن يذوب وسط حريق يأكل المكان.

التعليقات التي كانت تتهافت على وسائل التواصل الاجتماعي ردًّا على الصورة، جاء في إحداها: “هلأ هاد منظر وحدة بدها تساعد الناس!! شوفوني أنا وعم ساعد”.

هاجمَ الناس هيئة الممثلة وثيابها مقارنًة بهيئة من وقف قربها. انفعلَ الناس أكثر ما انفعلوا لمجرد أن فكرتْ الممثلة بأن تلتقط لفعلها الإنساني صورة. غضِب الجمهور لأنه رأى وجهه الحقيقي في صورة تم تركيبها وصناعتها والتقاطها بوضوحٍ لا لبس فيه، الفقراء خائفون وحقيقيون والمجتمع حجرة تنصت.

شتم الجمهور مشهدًا يوميًّا في حياته، يمر قربه مرور الغريب. لعن الجمهور الشرّ والمظاهر والاستعراض، عبر لقطة رسمت كلّ ذلك عن قصد أو دون قصد، فالفوتوغرافيا تبقى عمياء، إن لم يهزها الضجيج.


سوزان علي


المصدر
جيرون