حول طبيعة وآفاق الحراك الشعبي الإيراني الجديد
7 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
الحراك الشعبي الإيراني ما زال في بداياته. ومن الصعب التكهّن بمآلاته المستقبلية، اعتمادًا على المعطيات الراهنة، سواء من جهة حجم وطبيعة التحرك، أم من جهة نوعية القيادات ومدى انسجامها، وحدود توافقاتها حول استراتيجية عامة لمواجهة التحديات في مختلف المناطق، وعلى مختلف المستويات.
غير أن المؤشرات التي تستوقف أكثر من غيرها في هذا الحراك هي: اتساع النطاق، وتعددية الشرائح المجتمعية والقوميات المشاركة فيه، وتجاوزه كل الخطوط الحمراء في قاموس النظام، وغلبة الطابع الشبابي، والمساهمة البارزة للمرأة.
وما يستشف من كل هذه المؤشرات هو أن الدعوات المطالبة بتغيير النظام قد بلغت مرحلة النضج نسبيًا. وأن تراكمات عقود من الهيمنة المطلقة على مفاصل الدولة والمجتمع في إيران من قبل نظام ثيوقراطي قد أفقدت النظام المعني عوامل جاذبيته الشعبوية. وذلك بعد أن تبيّن للقاصي والداني أنه قد اتخذ من الورقة المذهبية أداة تحشيدية تجييشية، في المنطقة، منذ اليوم الأول لسيطرته على الحكم في إيران.
فقد اعتمد سياسة التغلغل الناعم بين الأوساط الشيعية في الدول المجاورة، لا سيّما العربية منها، مستغلًا إخفاق حكوماتها في بناء مشاريع وطنية، تضمن حقوق جميع مواطنيها، من دون أي تمييز مذهبي أو ديني أو قومي.
وجاءت الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988، بتكاليفها البشرية والمادية الكارثية، لتحوّل المظالم المشروعة إلى انقسامات عميقة، تمكّن النظام الإيراني من استغلالها بعد حرب تحرير الكويت 1991، ومن ثم حرب أفغانستان 2001، وحرب العراق 2003 التي انتهت بسقوط النظام العراقي، بل بانهيار الدولة العراقية، الأمر الذي فتح المجال واسعًا أمام النفوذ الإيراني، الذي سرعان ما أطبق على الدولة العراقية، وبات القرار المركزي العراقي عبر سائر صيغ التحالفات التي كانت، وما زالت، مذهبية الأساس، وإيرانية المرجعية.
أما في لبنان، فقد تمكّن النظام الإيراني من الهيمنة شبه الكاملة على الشيعة في لبنان، ومرة أخرى، مستغلًا الظلم الذي كان نتيجة التهميش الذي تعرضوا له من دون وجه حق على مدى عقود؛ فأنشأ تنظيم “حزب الله” بالتنسيق مع النظام السوري. وتمكّن هذا التنظيم، خلال فترة قصيرة نسبيًا، بدعم مباشر من النظام السوري، من تغييب المناوئين، والاستفراد بملف المقاومة الذي كان وسيلة من وسائل التحشيد والتضليل، واتهام الخصوم بكل الصفات التي كان من شأنها تعزيز دور ومكانة “حزب الله” لبنانيًا، وعلى المستويين العربي والإسلامي.
ومع بدايات الربيع العربي، لا سيما في اليمن وسورية؛ تحرّك النظام الإيراني سريعًا من أجل المحافظة على ما كان قد استثمر فيه طوال عقود، واتخذ قراره الحاسم بالدفاع عن النظام السوري، وحمايته، ومنعه من السقوط بكل الوسائل. ودخل عبر الحوثيين إلى اليمن، وبدأ يهدد بصورة مكشوفة الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية إلى جانب حكومة هادي، وذلك إدراكًا من المعنيين بأن التدخل الإيراني لن يتوقف عند اليمن، بل سيكون الأخير البوابة الجنوبية للإطباق على دول الخليج، كما ستكون سورية البوابة الشمالية للهدف ذاته.
ولتنفيذ الاستراتيجية التوسعية التي التزمها النظام الإيراني بنَفَسٍ إمبراطوري ماضوي؛ استخدم النظام المذكور الميليشيات المحلية المؤدلجة مذهبيًا، لتمارس حربًا على شعوب بلدانها بناء على أوامره. غير أن ذلك كلّف هذا النظام نفقات مادية هائلة، خاصة في ظل هبوط أسعار النفط، وضعف القطاعات الإنتاجية الأخرى غير النفطية. هذا إلى جانب الفساد الشمولي الذي بات معلمًا من معالم الوضعية الإيرانية. كل ذلك أنهك المواطن الإيراني، وقطع الطريق أمام تطلعه نحو مستقبل يرتقي إلى مستوى ثروات وطاقات إيران الحقيقية. هذا إلى جانب حرمانه من حرية التفكير والتعبير؛ وتطويقه بالأجهزة الأمنية المتشابكة الأدوار، وإيهامه بوجود منافسة حرة، بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين، الأمر الذي ظهر جليًا مدى تهافته، وانكشف دوره في ميدان التستّر على طبيعة النظام الحقيقية التي تتمثل في تحكّم المرشد بكل شيء، من خلال الحرس الثوري، والأجهزة الأمنية، والقوات العسكرية، واللجان المعنية بالدستور والانتخابات وحماية النظام. أما أكذوبة الرئيس الإصلاحي فهي مجرد وسيلة للتعمية، تستخدم وتزاح عند اللزوم.
التحرك الشعبي الإيراني ما زال -كما أسلفنا- في بدايته. والمواقف الدولية المتباينة، حول كيفية التعامل مع ما يجري في إيران، ما زالت هي الأخرى رجراجة، بعضها قلق من التبعات والانعكاسات، وبعضها الآخر متفائل بنبرة مشوبة بالحذر.
إلا أن الذي يدعو إلى التوجس الواقعي، هو أن يستفرد النظام غير القابل للإصلاح، وغير المستعد لتقديم أي تنازل لصالح شعبه، بالإيرانيين، وتتكرر المأساة السورية مرة أخرى، في ظل تقاعس المجتمع الدولي الذي من المتوقع أن يتدثر بالآليات القديمة التي تتحكّم بالأمم المتحدة، وهي الآليات التي لم تعد تصلح بأن تكون مرتكزًا لمقاربة قضايا ومشكلات زمننا هذا.
ولكن مهما يكن، فقد تجاوز الشعب الإيراني حاجز الخوف، ولن يتمكّن النظام القائم بأيديولوجيته النكوصية، وأدواته القمعية من إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. فالشعب الإيراني يريد العيش الكريم، والحرية بأوسع معانيها. وشعوب المنطقة التي تضررت كثيرًا من جراء التدخلات والأعمال التخريبية التي كانت، وما زالت، من جانب النظام الإيراني تتطلع هي الأخرى نحو مستقبل أفضل، تضمن فيه الدول الوطنية غير المذهبية أو القوموية حقوق سائر مكوناتها من دون أي تمييز، لتنعم هذه الشعوب جميعها، ومن بينها الشعب الإيراني، أو الشعوب الإيرانية، بطبيعة الحال، بالأمن المستدام، والاستقرار الفعلي، لتتمكّن بفضلهما من الاستفادة من ثروات وطاقات بلدانها، وتتفرغ لإنجاز مهام التنمية المتوازنة، التي تضمن فرص التعليم والعمل والابتكار لأجيالنا الشابة التي من حقها أن تعيش عصرها، ومن واجب دولها أن تسعى من أجل تأمين هذا الحق المشروع لها، إذا كانت تمتلك خططًا جادة من أجل بلوغ مستقبل أفضل.
عبد الباسط سيدا
[sociallocker]
جيرون