ماراتون الشرف



تعمل الأنظمة الشمولية جاهدة على استمالة المبدعين والمبدعات، وتتابع باهتمام حياتهم الشخصية، فترصد حركاتهم وسكناتهم وخصوصياتهم؛ وتقدم لهم الإغراءات المتنوعة، وترتب (لهم ولهنّ) ملفات فساد مالية وأخلاقية، يمكن استخدامها، عند الضرورة، ضدّهم، كما تعرقل تشغيلهم، وتمنع ظهورهم في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، وتجبرهم على التخلي عن ضمائرهم، وتحولهم إلى شهود زور، أو مجرد سلع رخيصة، ليست قابلة -فقط- للبيع والشراء، بل لتزوير الحقيقة والكذب على الناس.

هؤلاء الأنانيون يتحولون بسرعة الضوء إلى أبواق، ويصبحون ركنًا من أركان النظام، يتشدقون بقيم الفن العليا (الحرية والكرامة والصدق والوطنية)، لكنهم في أول منعطف يخونون تلك القيم، ويكشفون عن وجوههم الحقيقية.

هل يمكن أن يكون فنانًا، من يقبّل “البسطار” العسكري ويضعه على رأسه! في الوقت الذي يدوس فيه هذا البسطار على رقاب الناس! وهل يجوز أن نطلق صفة “فنان” على من يرتدى البزة العسكرية البلقاء، ويمتشق البندقية (على شاشة التلفاز) ليؤكد ولاءه للقتل! وهل يلتقي الفن والقتل في شخص سوي! هل توجد خيانة أكبر من أن تخون نفسك وتخذل جمهورك الذي أحبك وآمن بك، وجعلك قدوة له، وظن أنك ستدافع عن أحلامه وطموحاته، وأنك ستقف في صفه ضد جلاديه، كما كنت تدّعي في مسلسلاتك ومسرحياتك وأفلامك ومقابلاتك؟

إن تلك الأنظمة الفاسدة تعمل جاهدة على تعميم الفساد في المجتمع، وتحت شعار الوطنية، تمارس شتى أنواع الموبقات، وبخاصة في الوسطين الفني والثقافي، كي تتمكن من احتوائهما وإفراغهما من المضمون الأخلاقي والتنويري.

لقد لعب الاستغلال البشع للمرأة -الذي ساد في الوسط الفني منذ تسعينيات القرن المنصرم، وبخاصة في دهاليز التلفزيون وشركات الإنتاج- دورًا كبيرًا في تشويه الحركة الفنية السورية. وهذا أمر طبيعي، لأن وظيفة الفنان هي الدفاع عن القيم العليا للبشرية، وواجبه أن يكون حارسًا لها، مدافعًا عنها، شريفًا، صاحب ضمير حي، نظيفًا، غير فاسد، حرًا، في سلوكه وفكره، وطنيًا منسجمًا مع نفسه وقناعاته… وهذا ما لا يستقيم –أبدًا- مع قيم الاستبداد: (الواسطة، الرشوة، التزوير، السرقة والمحسوبية….) لكن إذا كانت هذه القيم ممكنة في مؤسسات الدولة ووزارتها، فهي غير واردة –أبدًا- في مجال الإبداع والفن، لأن هذا النوع من النشاط البشري علني، اجتماعي، شفاف، يتم تحت الأضواء لا تحت الطاولة.

وكي لا يكون الكلام عاطفيًا أو نظريًا، نتساءل: هل يمكن شراء الموهبة الفنية بثمن؟ هل نستطيع تصنيعها أو الحصول عليها بالواسطة أو التزوير؟ والجواب -قطعًا- هو النفي! لأن قوى الأرض لو اجتمعت كلها، كي تصنع موهبة حقيقية، لما استطاعت ذلك. إن طبيعة الفن معادية للفساد (المادي والمعنوي) ونقيضة له، كما أن الفساد بطبعه عدو للفن والفكر والجمال.

صبايا المعهد العالي للفنون المسرحية، طالما تساءلن بصمت، وبحيرة وخفر الأنثى: ما العمل!؟ ما السبيل إلى المحافظة على إنسانيتنا في “ماراتون الشرف” والنجومية!؟ هل كتب علينا أن “نبيع” لمن يدفع أكثر!؟

هنّ لا يرغبن في بيع أجسادهن الفتية لشركات الإنتاج المريبة، مقابل شهرة أو مال! حتى المتزوجات لا يسلمن من هذه المقايضة البائسة! والجواب كان وما يزال: الفنانة التي تخوض الفن بلحمها، لا يعوّل عليها. وكل من دفعت ثمنًا لقبولها في المعهد العالي للفنون المسرحية، سوف تضطر إلى دفع الثمن كل مرة، وفي كل محطة من حياتها. الحصانة الوحيدة للفنانة (والفنان طبعًا)؛ أن تكون موهوبة حقًا، ومدافعة عنيدة عن القيم الجميلة في حياتها وحياتنا.

كثيرات وكثيرون هم الذين يحاولون ممارسة “الدعارة” عن طريق “الفن”، ظنًا منهم، ومنهنّ، أن ذلك سيكون أشرف وأستر لهم ولهنّ، لكن إذا كانت الحياة كشّافة، فما بالك بالفن الذي يضعك تحت الأضواء والمسؤولية! نحن هنا لا نتحدث عن الدعارة الجسدية فقط؛ بل عن الدعارة الفكرية والسياسية، في ماراتون الشرف هذا.


غسان الجباعي


المصدر
جيرون